أمراض القلب والشرايين تقتل، وللأسف تقتل الكثيرين. هذه الحقيقة البسيطة والمؤلمة في نفس الوقت، تؤكدها دوماً الإحصائيات المحلية والدولية عاماً بعد عام. فضمن قائمة القتلة الكبار، وهي الأمراض التي تقتل أكبر عدد من أفراد الجنس البشري، نجد أن أمراض القلب تحتل رأس هذه القائمة بدون منازع. فمن بين جميع أسباب الوفيات البشرية في أي عام من الأعوام، تتسبب أمراض القلب والشرايين في ما بين 27% إلى 29% منها. وهو ما يعني أنه من بين قرابة الستين مليون وفاة سنوياً، دائماً ما يكون السبب في أكثر من 16 مليوناً، هو مرض أو آخر من مجموعة أمراض القلب والشرايين. ورغم أن المجتمع الطبي يبذل جهداً هائلاً، وينفق أموالاً طائلة في علاج هذه الأمراض، إلا أن هناك إدراكاً متزايداً بين الأطباء والعامة على وجه سواء، أن حل مشكلة أمراض القلب، وأفضل السبل لتجنب نهايتها المأساوية، يتلخص في الحكمة القديمة بأن درهم الوقاية خير من قنطار العلاج. ولذا تتجه حالياً جهود الكثير من المستشفيات والمراكز العلمية، نحو تحديد عوامل الخطر التي تؤدي إلى زيادة احتمالات الإصابة بأمراض القلب والشرايين، ونحو أفضل السبل لتجنبها. أحد هذه الجهود، أثمرت نتائجه الأسبوع الماضي، من خلال نتائج دراسة نشرت في الدورية الطبية المرموقة (The British Medical Journal)، كان قد أجراها أحد المستشفيات الأميركية (Brigham and Women's Hospital)، تابع لكلية طب جامعة "هارفارد" العريقة. وخلصت هذه الدراسة إلى أن تناول كميات أقل من ملح الطعام الذي يسميه البعض "القاتل الصامت"، يؤدي إلى خفض احتمالات الإصابة بأمراض القلب والشرايين بنسبة 25%، وخفض الوفيات الناتجة عنها بمقدار 20%، أي بمقدار واحدة من كل خمس وفيات. هذا التأثير الهائل على احتمالات الإصابة والوفاة من أمراض القلب والشرايين، يتأتى فقط من مجرد خفض المتناول يومياً من ملح الطعام بمقدار ثلاثة جرامات، أو ما يعادل نصف ملعقة شاي. وتأتي هذه النتيجة المذهلة لتؤكد الحقيقة المعروفة بأن زيادة الملح في الطعام، تؤدي إلى ارتفاع ضغط الدم، والذي يؤدي بدوره إلى زيادة احتمالات الإصابة بالذبحة الصدرية وبالسكتة الدماغية. وما أضافته هذه الدراسة، أنها قدمت الدليل الدامغ، وبشكل حسابي دقيق، يظهر العلاقة بين كمية الملح في الطعام وبين أمراض القلب والشرايين. فمن خلال مشاركة أكثر من ثلاثة آلاف شخص في الدراسة، يعانون جميعهم من الحالة الطبية المعروفة "بما قبل ارتفاع ضغط الدم" (pre-hypertension)، وهي الحالة التي يكون فيها ضغط الدم طبيعياً، ولكنه في المستوى الأقصى للحدود الطبيعية، نجح الأطباء في خفض احتمالات الإصابة والوفاة بينهم، من خلال خفض ما يتناولونه يومياً من ملح الطعام، من عشرة جرامات إلى سبعة جرامات فقط. ولكن إذا ما كان من الممكن وبسهولة تجنب تأثير زيادة ملح الطعام، فللأسف توجد عوامل خطر أخرى، يصعب على إنسان القرن الحادي والعشرين تجنبها، مثل ضغوط الحياة اليومية. فبعد يوم واحد من تاريخ نشر الدراسة السابقة، عرض مجموعة من الخبراء على البرلمان الأوروبي في بروكسل، نتائج تقرير مفصل، خلاصته أن ضغوط الحياة اليومية تهدد بانتشار وباء عالمي من أمراض القلب والشرايين. ويربط التقرير بين الحياة العصرية، بإيقاعاتها السريعة وتوتراتها المرتفعة وضغوطها الشديدة، وبين انتشار مرض ارتفاع ضغط الدم، أحد أهم عوامل الخطر خلف أمراض القلب والشرايين. حيث تشير التقديرات، إلى أن ارتفاع ضغط الدم يرتبط بشكل أو بآخر، بأكثر من سبعة ملايين وفاة سنوياً. ويحذر مجموعة الخبراء الدوليين في تقريرهم، من أن واحداً من كل أربعة من البالغين يعاني حالياً من مرض ارتفاع ضغط الدم، وهي النسبة التي يمكن أن ترتفع إلى 60% من بين جميع الأفراد، إن لم تتخذ الخطوات الضرورية لدرء خطر هذا الوباء العالمي. مثل هذا الوباء المرتقب، يمكن أن يمحي في طرفة عين، جميع نتائج الاختراقات والتطورات التي حققها الطب الحديث خلال القرن الماضي، على صعيد علاج أمراض القلب والشرايين وخفض الوفيات الناتجة عنها. وفي تعليق على هذا الموقف الخطير، يقول الدكتور "بانوس كانافوس" (Panos Kanavos)، الباحث بلندن سكول أوف إيكنوميكس إنه "من الخطأ الاعتقاد بأن ارتفاع ضغط الدم يصيب المُسنين فقط. فضغط الدم المرتفع الخارج عن السيطرة، بين من هم في الثلاثينات والأربعينات والخمسينات من عمرهم، سيؤدي حتماً إلى زيادة معدلات الإصابة بأمراض القلب والشرايين وبالسكتة الدماغية. وهو ما سيؤدي بالتبعية إلى صرع وإعاقة الكثير من الرجال والنساء، وهم في قمة عطائهم وإنتاجيتهم، محولاً إياهم من قوة دفع للنمو الاقتصادي، ومن مصدر للدخل العام، إلى مستقبلي إعانات اجتماعية على المدى الطويل، وإلى مستهلكين للخدمات الصحية بشكل مكلف". ولذا يطالب الدكتور "كانافوس" بتنسيق السياسات العامة والصحية، بهدف تفعيل جهود الفحص المبكر لهذا المرض، وضرورة العمل على معالجة الأسباب التي تؤدي للإصابة به من الأساس. ولذا يرى البعض، أن هذه الجهود يجب أن توجه للتعامل مع جميع أشكال توترات الحياة التي أصبح الكثيرون يعيشون تحت طائلها حالياً. فمن المعروف أن التوتر المزمن يؤدي بالتبعية إلى سلوكيات صحية سلبية، مثل التدخين، وتناول غذاء غير صحي، وتناول الكحوليات، والتقاعس عن ممارسة النشاط البدني بشكل كافٍ، وهي كلها عوامل معروف عنها أنها تزيد من أمراض القلب، ومن أوجاعه. د. أكمل عبد الحكيم