"قبل أسابيع قليلة فقط لم يكن بإمكاني المرور بعربتي من هذا الشارع دون التعرض للهجوم. فعندما مررت منه في شهر فبراير الماضي، تعرضت لإطلاق نار كثيف، وانفجرت العديد من العبوات الناسفة"... هذا هو الوصف الذي خصه العقيد "جون تشارلتون" للرمادي، عندما كنا نتجه في موكبنا عبر الشارع الرئيسي المُدمر في هذه المدينة العراقية. ورغم سوء الطالع المقترن بيوم الجمعة 13 من شهر أبريل الجاري الذي قمنا فيه بجولتنا عبر شوارع المدينة المقفرة والمتداعية، فإن موكبنا من السيارات المصفحة لم يتعرض لهجوم واحد. وإذا كان الأسبوع الماضي قد شهد هجوماً انتحارياً مروعاً على نقطة تفتيش تابعة للشرطة بإحدى الشاحنات الممتلئة بالمتفجرات وغاز الكلورين، موقعاً 12 قتيلاً، فإن العنف الذي كان متفشياً في "الرمادي" أصبح الاستثناء وليس القاعدة. كما أنه طيلة الفترة التي زرت فيها المدينة لم أسمع عن مقتل جندي أميركي واحد. هذا النجاح الكبير في مدينة مثل "الرمادي" يستحق التأمل والتفكير، في وقت يتهيأ فيه الأميركيون للتخلي عن العراق باعتباره قضية خاسرة. فلا شك أن القوات الأميركية المنتشرة في العراق تواجه أوقات عصيبة، ولا أدل على ذلك من التفجير الذي أوقع 200 شخص في بغداد خلال الأسبوع الماضي. لكن، وكما عبر عن ذلك الجنرال "ديفيد بيتراوس" لدى تسلمه قيادة القوات الأميركية في العراق "كون الوضع صعباً لا يعني أنه ميئوس منه". ولعل المثال الذي توفره مدينة الرمادي، التي تحولت من إحدى أكثر المناطق خطورة في العراق إلى أقلها عنفاً، يثبت أن الأمل في تحسن الأوضاع مازال قائماً. والواقع أن التغيير بدأ يظهر على الأرض في السنة الماضية عندما وسعت الفرقة المقاتلة من اللواء الأول التابعة بدورها إلى الفرقة المدرعة الأولى من تواجد الجنود بالقرب من معاقل "القاعدة" المنتشرة غرب المدينة، وهي العملية التي أدت إلى سقوط تسعين جندي أميركي. وبعدها جاءت الفرقة المقاتلة من اللواء الأول التابعة لفرقة المشاة الثالثة التي التحقت بالمدينة مطلع العام الحالي ووسعت من عملياتها في المنطقة. وطيلة الفترة الممتدة من أواسط فبراير وإلى غاية نهاية شهر مارس، قاتل قرابة ألفي جندي أميركي جنباً إلى جنب مع حلفائهم العراقيين لبسط سيطرتهم على المدينة. وقد بدأت العمليات القتالية من خلال الهجوم على المناطق المستهدفة للقضاء على "أشخاص بارزين" ضمن قيادة "القاعدة" المحلية، بعدها قام الجنود بوضع حواجز خرسانية يصل علوها إلى ثلاثة أمتار لمنع المتمردين من التسلل خارج المدينة. وترافق ذلك مع عمليات تمشيط واسعة لاستئصال العدو من الشوارع، حيث اندلعت معارك ضارية مع المتمردين الذين استخدموا قنابل محلية الصنع، فضلاً عن قذائف متنوعة ومدافع الرشاش الثقيلة، ما أدى إلى سقوط عشر جنود أميركيين وجرح أكثر من أربعين آخرين. وفي هذا السياق قال "تشارلتون" القائد الذي أشرف على العمليات "إن الثمن كان باهظاً، لكن النتيجة تستحق بعدما تكبد العدو خسائر فادحة". وللتدليل على ذلك أطلعني القائد العسكري على وثيقة مطبوعة تعدد مخابئ الأسلحة التي كُشف عنها خلال العمليات القتالية وهي: 10 آلاف رطلاً من المتفجرات محلية الصنع، و2347 رطلاً من الموارد عالية التفجير، بالإضافة إلى مواد أخرى تستخدم في الهجوم على القوات الأميركية والعراقية. ندوب المعركة ظلت شاخصة في شوارع الرمادي التي تحولت إلى أطلال وأكوام من الركام تشبه إلى حد كبير شوارع برلين سنة 1945. فالبنايات مدمرة بالكامل والمياه تغمر الشوارع بعد أن تعطلت أنابيب المياه بسبب العبوات الناسفة التي تزرع تحت الطرقات. وقد عملت القوات الأميركية على تغيير تكتيكاتها، فبدلاً من الاقتصار على تطهير الأماكن الخطرة من المتمردين، ثم الانسحاب إلى قواعد بعيدة، ما يتيح عودتهم مجدداً، تحرص اليوم على البقاء لحماية المدنيين، وهو ما طبقته في حالة الرمادي. فقد أقامت القوات الأميركية أربع قواعد داخل الرمادي، بالإضافة إلى أكثر من أربعين نقطة تفتيش مشتركة وموقع مراقبة يتقاسم الإشراف عليها جنود أميركيون إلى جانب نظرائهم العراقيين. ولمزيد من الأمن تم إنشاء 23 مركز للشرطة في المدينة والمناطق المحيطة بها. وهكذا أصبحت الحصون الصغيرة المنتشرة داخل المدينة قادرة على رؤية بعضها البعض بالعين المجردة، وهي أيضاً مزودة بكاميرات مراقبة معلقة فوق أعمدة يبلغ علوها مائة متر تشرف على مناطق شاسعة. وبعد استكمالهم لمرحلة "التطهير" وإفراغ المدنية من المتمردين تعكف القوات الأميركية على مرحلة البناء عبر ترميم ما دمرته المعارك في مسعى لكسب قلوب المدنيين. وفي رأيي تعتبر مرحلة الإعمار الأكثر صعوبة على الإطلاق لأنها تتطلب المزيد من الأموال التي ليست بالضرورة متوفرة في هذه اللحظة. فالقائد "تشارلتون" يستطيع اللجوء إلى الأموال المرصودة من قبل الحكومة الأميركية لتسديد مبلغ 4.4 مليون دولار من المشاريع التي يحتاجها جزء من عملية إعمار المدينة، لكن التقديرات التي يضعها "تشارلتون" للتكلفة الإجمالية للبناء تصل إلى عشر مليون دولار. ويأمل القائد العسكري المسؤول عن الرمادي بأن يحصل على الأموال من بعض الجهات الحكومية في الولايات المتحدة مثل وكالة التنمية الدولية لاستكمال عملية إعمار المدينة الضرورية لاستمالة المدنيين وإقناعهم بعدم التعاون مع المتمردين. ورغم أنه كان يفترض بالحكومة العراقية تولي عملية الإنفاق على مشاريع إعادة الإعمار، فإنه في حالة محافظة الأنبار السُنية، فقد لوحظ تباطؤ الحكومة الشيعية في إرسال الأموال اللازمة للاضطلاع بمهام البناء والتشييد. ماكس بوت ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"