في وقت كان الارتباك الفكري وفقدان اليقين النظري حول مستقبل الولايات المتحدة الأميركية كقوة عظمى مهيمنة، سمة غالبة على كتابات المنظرين الاستراتيجيين الأميركيين في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، رغم تآكل الكتلة الاشتراكية بزعامة الاتحاد السوفييتي... إذا بحجر كبير يقذف فجأة في بركة الأيديولوجيا الأميركية التقليدية الراكدة، هو كتاب "نهاية التاريخ وخاتم البشر" لمؤلفه فرانسيس فوكوياما. وقد أصبح ذلك الكتاب إنجيل المجتمع الأميركي المثقف خلال مرحلة ما بعد الحرب الباردة، إذ قدم نظرية استراتيجية جديدة مؤسسة على مفاهيم فلسفية، كما قام بتأصيل فكري للسياسة الخارجية الأميركية في ظل نظام عالمي جديد. ورغم أن فكرة نهاية التاريخ لم تكن فكرة جديدة، فإن الوضع العالمي في أواخر الثمانينيات ومطلع التسعينيات، ساهم في إذكاء الجدل حولها بقوة، لكنه جدل في معظمه أفرغها من مضمونها وأفقدها كثيراً من دلالاتها وأبعادها المهمة. من هنا يأتي كتاب "نظرية نهاية التاريخ، وموقعها في إطار توجهات السياسة الأميركية"، لمؤلفه محمد سيف حيدر النقيد، كمحاولة منهجية لتمحيص بعض الدعاوى حول نظرية فوكوياما، وبهدف وضعها في إطارها الصحيح دون تهويل أو تهوين. ينطلق المؤلف من افتراض وجود رابط علائقي بين نظرية نهاية التاريخ وبين الأجواء والأفكار التي صاحبت وصاغت وروجت المفهوم الأميركي لـ"النظام العالمي الجديد". كما يفترض أيضاً أن هذه النظرية أدت وما تزال تؤدي دوراً في صياغة ورسم توجهات السياسة الخارجية لواشنطن ضمن نسيج النظام العالمي الجديد. وانطلاقاً من الفرضيتين أعلاه، يسعى الكتاب إلى تحقيق ثلاثة أهداف؛ أولها بناء مقاربة موضوعية لنظرية نهاية التاريخ ومحاولة تأصيلها، وثانيها التعرف على المعطيات الفكرية والسياسية لتلك النظرية، أما الهدف الثالث فهو الإحاطة بموقع وأثر النظرية في صياغة التوجهات الاستراتيجية للولايات المتحدة الأميركية. وقد قسم المؤلف كتابه إلى ثلاثة فصول؛ تناول أولها مفاهيم النظرية والنهاية والتاريخ والنظام العالمي الجديد، وباعتباره الإطار النظري للدراسة فلن نتوقف عنده، لنتجاوز إلى الفصلين الثاني (نظرية نهاية التاريخ: الممهدات والمضمون)، والثالث (أصداء نظرية نهاية التاريخ وموقعها في إطار توجهات السياسة الأميركية في ظل النظام العالمي الجديد). يحاول النقيد في الفصل الثاني من كتابه إبراز الجذور الفكرية والفلسفية لنظرية نهاية التاريخ، على اعتبار أن النظرية هي أولاً وأخيراً محصلة سياق واعتقاد تاريخي محكم التكوين في نسيج العقل الغربي وتميزاته. فقد حازت فكرة نهاية التاريخ على اهتمام واضح من قبل الفلاسفة والمفكرين الغربيين، بدءاً من أفلاطون وأرسطو وانتهاء بهيجل وماركس ونيتشه... إذ قالوا جميعاً بنهاية التاريخ من حيث الاحتمال والإمكانية، وإن بطرق ومضامين مختلفة. أما الممهدات السياسية التي دفعت إلى ظهور نظرية نهاية التاريخ، فأبرزها موجة التحول الديمقراطي الليبرالي في أنحاء العالم، وإخفاق النموذج الذي بنته الأيديولوجيا الماركسية في أنحاء مختلفة من العالم، وانهيار النظام الدولي القديم وبروز ملامح نظام عالمي جديد... فلتلك الأسباب صيغت نظرية نهاية التاريخ بروح انتصارية عكست مدى نشوة الولايات المتحدة بانتصارها على المنظومة الاشتراكية وبالتالي تعزيز قيمة النموذج الليبرالي الغربي كمنحى يجب الاحتذاء به والانصياع لمفاهيمه وتصوراته في الفكر والنظم والحياة. بعد ذلك يعرض الكتاب لمضمون النظرية، موضحاً أنها تقوم على أطروحة أساسية مفادها أن التاريخ كحركة تطورية مترابطة منطقياً، ينتهي بظهور الديمقراطية الليبرالية. وعلى ارتباط بتلك الأطروحة، يعتقد فوكوياما أن العالم في المستقبل المنظور سينقسم إلى قسمين متفاوتين: شطر تخطى التاريخ وشطر لا يزال غارقاً في التاريخ، وأن نهاية التاريخ ستتحدد على ضوء الرغبة في الاعتراف، وأن الدولة الليبرالية كدولة عقلانية هي وحدها التي تحقق مصالحة بين المطالب المتنافسة على الاعتراف، ومن ثم فإنها ستسود في نهاية التاريخ، بمعنى أن "الديمقراطية الليبرالية قد تشكل نقطة النهاية في التطور الأيديولوجي للإنسانية، والصورة النهائية لنظام الحكم البشري، وبالتالي فهي تمثل نهاية التاريخ". وفيما يتعلق بالمتغيرات الرئيسية في النظام الدولي الجديد كما تتصوره نظرية نهاية التاريخ، ينبه فوكوياما الديمقراطيات الليبرالية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، إلى أنه بانهيار النظام الشيوعي فقد تغير كلياً عالم الجغرافيا السياسية الذي ساد في الماضي، وإلى أن قواعد وأساليب "العالم التاريخي" غير مناسبة للتعامل مع "عالم ما بعد التاريخ". أما عن موقع النظرية في إطار توجهات السياسة الخارجية الأميركية، فمن المعروف أنه ما أن طرح فرانسيس فوكوياما فرضيته حول نهاية التاريخ وحتمية التحول العالمي إلى الديمقراطية الليبرالية وفق النموذج الأميركي، حتى وجد جمهوراً واسعاً داخل الولايات المتحدة وخارجها يؤيدون أطروحته ويروجون لها بشكل واسع ومكثف. ولم يقتصر ذلك التأييد على صفوف المحافظين فحسب، بل تجاوزهم إلى كبار رجال الأعمال والمسؤولين والقادة السياسيين في أميركا، والذين امتصوا نظرية نهاية التاريخ وآمنوا بأن كل ما يريده الجميع على سطح الأرض هو تحقيق نظام ديمقراطي ليبرالي. وهكذا تواكبت نظرية نهاية التاريخ مع بداية التبشير الأميركي الرسمي بـ"نظام عالمي جديد"، حيث أظهرت توجهات السياسة الأميركية، وأضمرت في الوقت ذاته، قبولاً كبيراً لنظرية فوكوياما، حتى بدت الأخيرة وكأنها "بيان أميركا للعالم"، وهو بيان، كما يلاحظ المؤلف، هدفه الأول توظيف الديمقراطية الليبرالية كشعار لغرض الترويج للنظام العالمي الجديد. وبذلك يعود الفضل إلى فوكوياما في إنهاء حالة فقدان اليقين النظري في مشهد التنظير السياسي والاستراتيجي الأميركي خلال مرحلة تاريخية حاسمة، لكن على قاعدة نظرية وأيديولوجية لها عواقبها العملية غير الحميدة في أحيان كثيرة، كما رأينا في العراق وأفغانستان ومناطق أخرى من العالم! محمد ولد المنى الكتاب: نظرية "نهاية التاريخ" وموقعها في إطار توجهات السياسة الأميركية المؤلف: محمد سيف حيدر النقيد الناشر: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية تاريخ النشر: 2007