يبدو من الصعب أن نقول على وجه التحديد من هو نيكولا ساركوزي الرجل الذي تصدر المتأهلين في الجولة الأولى من الانتخابات الفرنسية الرئاسية محرزاً تقدماً واضحاً على منافسته الاشتراكية "سيجولين رويال"، وإن كانت النتيجة النهائية لتلك الانتخابات -على الرغم من هذا التقدم المؤقت- لا تزال غير مؤكدة بانتظار الشوط الثاني. ومعظم الأميركيين ينظرون إلى ساركوزي باعتباره زعيماً سياسياً أطلسي النزعة ومن المعجبين بالرئيس الأميركي جورج بوش (وهي حقيقة يحاول هو، على الأقل في الوقت الحالي، التغطية عليها حتى لا يتهم بأنه موالٍ للأميركيين). وساركوزي كما يرى معظم المحللين الغربيين من أنصار السوق الحرة، وسيقوم في حالة انتخابه بالحد من نفوذ البيروقراطية الفرنسية وتخفيف اللوائح والإجراءات المكبلة لأسواقها، وتخفيض ديونها، وفتح نوافذها على مصاريعها أمام رياح العولمة. وهناك اثنان من كبار المؤرخين والمعلقين الفرنسيين هما "مارسيل جوشيه" والراحل "رينيه ريمون" كان من رأيهما في وقت سابق أنه لا يمكن النظر إلى ساركوزي على أنه شخصية سياسية تتماهى بشكل تام مع أي تيار من التيارات التاريخية المعروفة لليمين الفرنسي. فهو ليس ديجولياً (حتى وإن كان الحزب الذي ينتمي إليه يعرف بين الناس العاديين باسم الحزب الديجولي).. لأن الرجل قد انفصل عن مبادئ الديجولية بمجرد أن دخل قائده "جاك شيراك" في علاقة شراكة مع الاشتراكيين عندما شغل منصب رئيس الوزراء في عهد فرانسوا ميتران. فالقضايا التي كان يهتم بها ساركوزي لم تكن هي أبداً تلك القضايا الديجولية العظيمة التي تتعلق بمصير فرنسا وقدرها في هذا العالم، ومنها على سبيل المثال "العبقرية الفرنسية المفترضة، وحاجة فرنسا إلى السيادة والاستقلال والتخلص من أي نفوذ أو تأثير أجنبي وخصوصاً الأميركي". فضلاً عن ذلك لا يمكن اعتبار الرجل اقتصادياً ليبرالياً بالمعنى الأوروبي التقليدي للعبارة بمعنى أن يكون رجلاً مؤمناً بأهمية المشروعات الخاصة ومناصراً للتجارة الحرة كما هو الحال مع السياسيين في جميع الأحزاب الليبرالية في طول أوروبا وعرضها. وبدلاً من ذلك، يمكن أن يقال إن الرجل يمتلك نزوعاً أصلياً لما يمكن أن نطلق عليه "الوسطية الاقتصادية" و"تقاليد التدخل الحكومية" التي وسمت الفكر والسياسة الاقتصادية الفرنسية من أيام الملكية، وحتى عهد شارل ديجول ثم فرانسوا ميتران. كما أنه لا ينتمي للتقليد "البيتاني" (نسبة إلى الماريشال بيتان) التقليدي الخاص بتقديس ثالوث العائلة والعمل والدين، والقائم على مناوأة النظم الجمهورية، والقومية الشوفينية، وكراهية الأجانب، كما لا ينتمي كذلك إلى التجسيد المعاصر والصاخب لتلك المبادئ الممثل في الحزب الذي يقوده جان ماري لوبن. وفي المرحلة الأولى من الانتخابات الفرنسية التي جرت الأسبوع الماضي، استطاع ساركوزي تحطيم "لوبن" واليمين المتطرف كقوة سياسية، وذلك من خلال إعادة طرح نفس القضايا التي يطرحها الأخير لكن بأسلوب جذاب وهو ما مكنه من الاستيلاء على الأصوات التي كان يمكن للوبن أن يحصل عليها، وهو الآن يخطو للعودة إلى الوسط مرة ثانية وهي منطقة ما كان يمكن للوبن أن يضع قدميه فيها. فهو ليس متديناً محافظاً، ولا مدافعاً عن الحق الطبيعي، ولا معادياً لقيمة المال وما يمثله، ولا معادياً للرأسمالية والعلمانية الحديثة. فالبعض في اليمين الأسباني يرونه على هذا النحو كما يبدو، وينظرون إلى فرنسا باعتبارها أكثر الدول الأوروبية علمانية، وأن ساركوزي هو عدو اليسار، وحصن منيع أمام موجات "الغزو الإسلامي" لأوروبا. وقد تحدث بشكل إيجابي عن الأصول الثقافية المسيحية لأوروبا لأنه يدرك أن الدين ليس مطروحاً كموضوع سياسي في فرنسا، وأن الكنيسة والدولة معاً تفضلانه أن يكون كذلك. ويمكن العثور على معادل علماني لهذا الجدال الثقافي في الرأي الذي عبر عنه واحد من مستشاري ساركوزي للشؤون الخارجية وأحد كبار معاونيه وهو "بيير لولوش" النائب في البرلمان الفرنسي عن إحدى دوائر باريس، الذي أعلن من على شاشة التلفزيون الفرنسي الأحد الماضي أن انتصار ساركوزي "المؤقت" كان انتصاراً للحق على الروح اليسارية النابعة من مظاهرات الطلبة عام 1968 وردة مضادة لما حدث عام 1981 (عندما سيطر التحالف اليساري- الشيوعي على السلطة في فرنسا). واعتبر لولوش أن الاستعانة بالسياسات الاقتصادية والاجتماعية التي انتصرت في بريطانيا في عهد مارجريت تاتشر وفي أميركا في عهد ريجان وتطبيقها في فرنسا ستعيد فرنسا إلى ما كانت عليه من تفوق وبروز في الماضي. ومثل هذه الآراء التي عبر عنها المقربون من ساركوزي، وعبر هو نفسه عن بعضها في مناسبات عدة، هي السبب فيما يتعرض له ساركوزي من انتقادات واتهامات بأنه ينتمي إلى "المحافظين الجدد" الأميركيين ولكنه يحمل جوازاً فرنسياً. غير أن هذا أيضاً من وجهة نظرنا ليس بالشيء الصحيح لأن ساركوزي ليس سياسياً عقائدياً، ولأن "المحافظين الجدد" في أميركا، ومهما قيل عنهم فإنهم كانوا -ولا يزالون- مخلصين لأيديولوجيتهم في "الديمقراطية العالمية" و"الويلسونية الجديدة" والرأسمالية السوقية. علاوة على ذلك فساركوزي ليس بالمثقف، ولا بالمُنظِّر، ناهيك عن أن يكون عقائدياً. وكل ما يمكن قوله إنه رجل طموح يبلغ من العمر 52 عاماً، ويحدوه طموح لأن يكون رئيساً للجمهورية الفرنسية. وهو أيضاً رجل "غريب" حيث كان والده مجرياً وأصبح لاجئاً في نهاية الحرب العالمية الثانية لأنه كان يخشى من القبض عليه من قبل السلطات الشيوعية في بلاده، باعتباره عدواً طبقياً تنحدر أسرته من أصول أرستقراطية. وقد التحق بـ"الفيلق الأجنبي" الفرنسي وعندما تم تسريحه في فرنسا، بعد أن وضعت الحرب أوزارها، التقى بأم ساركوزي وتزوجها ثم انتقل بعد ذلك إلى ارتباطات ومغامرات أخرى. ونشأ ساركوزي وترعرع كمهاجر كلاسيكي أو كـ"غريب" يعيش في أسرة غاب عائلها. وكان له أخوان اثنان أكبر منه سناً وأكثر طولاً وتفوقاً في الدراسة. وساركوزي الذي قرر في فترة مبكرة من حياته أن يصبح رئيساً لفرنسا يقول عنه العديد من الكتاب الفرنسيين إن شخصيته بلزاكية (أي شخصية تشبه شخصيات روايات الكاتب الفرنسي الشهير هونوريه دي بلزاك) وهي شخصيات كان تتصف عادة بأنها مغامرة يلتهمها الطموح، وتشق طريقها إلى العاصمة، وتتمكن من خلال قوة الدافع والطاقة الجبارة التي لا تنضب من الوصول إلى حافة النجاح الذي تحلم به. ويمكن لمثل هذا الشخص أن يكون رجلاً منتمياً إلى اليسار كما يمكن أن يكون منتمياً إلى اليمين على حد سواء، لا فارق، لأن ولاءه الأول والأخير هو للنجاح. ويليام فاف كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "تريبيون ميديا سيرفيس"