لم تشهد دولة الإمارات خلال تاريخها ما تشهده، حالياً، من حركة في البناء والتشييد والتعمير، حيث يقدّر حجم المشاريع الحالية وتلك قيد التنفيذ في الدولة بما يقرب من 500 مليار دولار، وذلك حتى مطلع شهر مارس المنصرم، بمعدل نمو يتجاوز 83% عن الفترة نفسها من العام الماضي، عندما بلغت قيمة المشاريع قيد التنفيذ والمخطط لإتمامها نحو 272 مليار دولار. وبهذه الأرقام تصل حصة الإمارات من إجمالي المشاريع المخطط لتنفيذها والمشاريع الحالية في الدول الخليجية إلى 40% تقريباً. إلا أن هذه الطفرة العقارية الكبرى يعتريها خلل متعدد الوجوه، سببه الأساسي عدم تناسق النمو العقاري مع المتطلبات الحقيقية لقطاعات السوق المختلفة، الأمر الذي أدّى إلى استمرار ارتفاع الأسعار والإيجارات في هذه السوق رغم ازدياد المعروض من العقارات بوتيرة قياسية، وبمعدلات عامة تزيد على معدل نمو الطلب العقاري نفسه، في حالة نادرة قد يؤدّي استمرارها إلى حركة تصحيحية تعيد الأمور إلى نصابها. هذه المعطيات تؤكّد أن السوق العقاري في الدولة يسير من غير خطط أو سياسات واضحة، ما يؤدّي إلى إرباك جميع الحسابات بشأن الاتجاهات المستقبلية لهذا السوق. وبقدر ما يؤدّي هذا الاختلاف في النمو بين فئات الطلب وفئات العرض إلى ضغوط على مستوى والأسعار والإيجارات، فإنه يحمل مخاطر أكبر على صعيد مستقبل "الاستثمار العقاري في الدولة" في حال وصول "العرض" في بعض القطاعات إلى "مرحلة الفائض" وتراجع عائدها الاستثماري إلى مستويات قد تؤثر سلباً في القطاع العقاري، ويمتد تأثيرها بالتالي إلى معظم قطاعات الاقتصاد الوطني بحكم دور الاستثمار العقاري كمحرّك رئيسي لعجلة الاقتصاد. إن التوسّع العقاري الذي تشهده الدولة حالياً، يبدو في مجمله أكبر بكثير من معدل النمو السكاني، ما يجعل الضامن الحقيقي لاستمرار هذه الطفرة هو ضرورة خلق طلب إضافي، وخارجي بالطبع، بما يكفي لاستيعاب الزيادة الكبيرة في العرض، وهو ما سعت إليه بعض إمارات الدولة من خلال صيغ قانونية تتيح للأجانب نوعاً من التملك العقاري. إلا أن هذا التوجه يطرح تساؤلات مهمة حول أثر هذه الطفرة العقارية في مسيرة التنمية المستديمة، وهي طفرة ستمضي في مرحلة من المراحل، ولكنها سوف تترك رواسب سلبية باقية بصفة دائمة، وتظل تشكّل ضغطاً متنامياً على البنية التحتية وتفرض تكاليف اقتصادية وأمنية واجتماعية باهظة. في ظل هذه المعطيات، فالمطلوب توجّهان، أحدهما يتعلق بإعادة هيكلة القطاع العقاري نفسه بالتركيز على القطاعات العقارية المهمة، وفي مقدّمتها السكن الاقتصادي والفنادق، وإعادة تفعيل قوى السوق العقاري على أساس تحرك الاستثمارات وفقاً لنمو الطلب الفعلي، الأمر الذي سيؤدي إلى توازن أفضل بين العرض والطلب في قطاعات السوق العقاري كافة ويوجه الاستثمارات نحو تلبية الاحتياجات الفعلية المتصاعدة، بما يضمن للمستثمرين تحقيق أفضل عائد استثماري ممكن على المدى الطويل من دون احتمال التعرض لتراجع حاد في العائد. إذا ما تمّ ترسيخ هذا التوجّه سينجم عنه تلقائياً ترشيد نشاط هذا القطاع، والتحوّل من مرحلة "تعزيز" وفرة الطاقة الإنتاجية ورفع معدلات النمو إلى مرحلة "وضع قيود" على الطاقة الإنتاجية وكبح معدلات النمو لتكون أكثر واقعية، وهو إذا ما تحقق سيعزّز فرص التوجّه الآخر متمثلاً في الانتقال من "اقتصاد العقار" إلى "اقتصاد الإنتاج"، والاهتمام أكثر بقطاعات استراتيجية ذات أبعاد خارجية تتجاوز حدود السوق المحلية الضيقة نسبياً، وتوسيع قاعدة الإنتاج وتنويعها وزيادة كفاءتها بصورة مستمرة تواكب متطلبات المرحلة، بعد أن أصبح القطاع العقاري الذي يمتصّ معظم الاستثمارات المحلية والأجنبية خصماً من رصيد القطاعات الإنتاجية التقليدية، حيث يسبب استمرار هذا الوضع مشكلات حقيقية للاقتصاد الوطني. عن نشرة "أخبار الساعة" الصادرة عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية