في العراق، أسفرت سلسلة هجمات انتحارية منسقة الأسبوع الماضي، عن مصرع ما يزيد على 170 قتيلاً. ولم يكن هؤلاء من الجنود ولا المسؤولين الحكوميين، إنما من المدنيين العزّل الأبرياء. وقد لقي هؤلاء مصرعهم، رجالاً أم نساءً أم أطفالاً كانوا، أثناء عودتهم إلى بيوتهم من العمل أو المدارس. وفيما لو وقع حادث جنوني كهذا، هنا في الولايات المتحدة الأميركية، أو في أي من الدول الأوروبية، فإن ردة الفعل المباشرة ستكون الشعور الطاغي بالغضب، مصحوباً بعقد العزم على عدم الاستسلام لبربرية ووحشية مرتكبي مثل هذه الفظائع التي لا تميز بين الضحايا. لكن وللأسف، فقد وقعت هذه الفظائع في بغداد، ولذلك فإن الاستجابة الوحيدة لها، هي تحويلها إلى حجة جديدة في السجال، من وجهة نظر دعاة الانسحاب من العراق، هنا في واشنطن. وبدلاً من شجب تلك الأعمال الهمجية الإرهابية ومرتكبيها، اتخذ منها منتقدو الإدارة دليلاً جديداً وإضافياً على وصف الاستراتيجية الأمنية التي شرع الجنرال بترايوس في تنفيذها هناك بالفشل، واتخذت ذريعة للتسليم بخسارتنا للحرب. وها هو مجلس الشيوخ، يوشك اليوم على اتخاذ قرار بتحديد جدول زمني واضح لبدء انسحابنا من العراق. ومن جانبي أقول إن ردة الفعل هذه، جد خطيرة، لكونها تعبر عن سوء فهم بالغ للواقع العراقي، ولطبيعة العدو الذي نواجهه فيه. والحقيقة أن الولايات المتحدة الأميركية، وحلفاءها العراقيين، قد تمكنا من إحراز تقدم كبير خلال الشهرين الماضيين اللذين تولى فيهما الجنرال بترايوس مهامه الأمنية الجديدة هناك. ويتلخص هذا التقدم في جبهتين رئيسيتين، لم يخطر ببال أحد إمكان حلهما أو إحراز أي تقدم فيهما: إطفاء نيران العنف الطائفي الشيعي الذي أصاب العاصمة بغداد بحالة أقرب إلى الشلل التام، ثم الحصول على الدعم السُّني لمهمتنا، لاسيما في محافظة الأنبار، التي كانت ينظر إليها حتى وقت قريب، على أنها غارقة في وحل العنف والتمرد الدموي. وعلى رغم واقعية هذا التقدم، إلا أنه لا يزال أولياً بالطبع. هذا وترمي الهجمات الانتحارية التي نراها اليوم في بغداد إلى الانتكاس بهذا التقدم والعودة بنا إلى الوراء. ولذلك فإن ما نراه ليس سوى عمل إرهابي محسوب ومدبر، لتنظيم "القاعدة" اليد الطولى فيه، والجهة التي تنفذه، هي نفسها الشبكة الإرهابية التي دبرت ونفذت الهجمات التي وقعت في كينيا وإندونيسيا وتركيا، وصولاً إلى عقر دارنا هنا في نيويورك وواشنطن. وإن كان للمعارك الضارية التي شهدها الأسبوع الماضي أن تستجلي حقيقة ما، فهي أن معركة بغداد، إنما هي معركة ضد تنظيم "القاعدة" في الأساس، طالما أن التنظيم يعتبر العاصمة العراقية، جبهة رئيسية له في حربه علينا. هذا وتتسم استراتيجية التنظيم الرامية إلى الفوز بالمعركة في بغداد، بالوضوح التام. وتتلخص هذه الاستراتيجية في قتل أكبر عدد ممكن من المواطنين المدنيين الأبرياء، على أمل إعادة إشعال نيران العنف الطائفي، بل وإرهاب المسلمين السُّنة أيضاً وإرغامهم على الخضوع والإذعان. وبعبارة أخرى، فبقدر ما يسعى الجنرال بترايوس وقواته، إلى تمكين وتوحيد صفوف العراقيين المعتدلين، بواسطة توفير الحد الأمني الضروري اللازم، بقدر ما يعمل تنظيم "القاعدة" على دق إسفين بين العراقيين، ويحرص على تحقيق أهدافه والفوز بالمعركة، بأداة البطش والقتل الدموي الوحشي. وهذا هو عين السبب الذي يجعل من القول بإمكان مواصلة حربنا لتنظيم "القاعدة"، مع بقائنا خارج حدود العراق، مجرد وهم وأضغاث أحلام لا أكثر. ذلك أن جوهر استراتيجية تنظيم "القاعدة" هناك، إنما هو محاولة إشعال نيران الحرب الأهلية. وفي الوقت ذاته، فإن هذه الهجمات الانتحارية الإرهابية التي تشهدها بغداد، إنما هي موجهة إلينا هنا في الولايات المتحدة الأميركية. والمقصود أن هذه الهجمات ترمي إلى التقليل من شأن التقدم الذي أحرزناه مؤخراً في معركتنا ضده في العراق. وفي الوقت ذاته يرمي التنظيم إلى إقناع الشعب الأميركي بلاجدوى الجهود الحربية المبذولة حالياً في العراق، وبأن علينا الانسحاب منه بأسرع ما يمكن. لذلك فما أن ترتفع أصوات ساستنا هنا بوصف حربنا على العراق، بالحرب الخاسرة، وبالمطالبة بضرورة تحديد جدول زمني للانسحاب، فهم إنما ينفذون ما يأمل فيه تنظيم "القاعدة" بحذافيره، على رغم علمي أنه لم يكن في نواياهم مطلقاً الانصياع لرغبات التنظيم الإرهابي، وتنفيذها بالإنابة عنه. وفي الوقت الذي ينفرط فيه زمام العقد السياسي الأميركي، يحدث العكس تماماً في العراق، إذ تتوحد الإرادة السياسية فيه. والدليل على هذا، أنه لم تعقب الهجمات الوحشية التي شهدها الأسبوع الماضي هناك، ردود فعل انتقامية عنيفة تذكر من قبل المليشيات الشيعية المسلحة، وهو ما كان يفترض أن يحدث قبل عام مضى من الآن. وعلى رغم موجة العنف الهوجاء هذه، إلا أن القيادة العراقية لا تزال تواصل إحراز التقدم الدؤوب البطيء الملحوظ، باتجاه التسوية والمصالحة الوطنية. غير أن علينا أن نتذكر أنه وفي حال تمكن شيعة العراق وأكراده وسُنته من تحقيق "التسوية السياسية" المأمولة للنزاع الحالي، فإن ذلك لا يعني زوال التهديد الذي يمثله تنظيم "القاعدة"، على استقرار العراق وأمنه ووحدة إرادة أهله. ذلك أن الهدف النهائي للتنظيم، وراء كل الأعمال الوحشية الإرهابية التي يحصد بها أرواح العشرات من المدنيين الأبرياء في شوارع العاصمة العراقية يومياً، هو المطالبة بالحصول على نصيب عادل من الثروة والنفط، وليس هدفه كذلك الحصول على مقعد له في الطاولة السياسية العراقية، وإنما هدفه الاستراتيجي الوحيد هو نسف تلك الطاولة وقتل كل من يجلس حولها بالذات. إذن فإن الهرب أمام هذا التنظيم الإرهابي ليس حلاً ولا موقفاً يليق بأميركا. والحل الوحيد الذي أراه هو أن نثبت أمامه ونقاتل حتى النصر. جو ليبرمان سيناتور ديمقراطي مستقل من ولاية كونيكتيكت ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"