تتعدد أنواع القهر كما تتعدد أسباب الموت، والنتيجة واحدة. فالموت موت نفسي. وأشهر أنواع القهر هو القهر السياسي، علاقة الحاكم بالمحكوم في نظم الحكم التي تقوم على التسلط وكبت الحريات العامة، والتفرد بالقرار. وهو ما سماه ابن رشد "وحدانية التسلط". كما تقوم على تزييف الانتخابات، وأجهزة الأمن، وقوانين الطوارئ، والاعتقال والسجن بلا محاكمة. وهي النظم الأيديولوجية التي تحكم باسم الحقيقة المطلقة، دينية أو سياسية، الفرقة الناجية الواحدة التي في الحكم في مقابل الفرق الضالة الهالكة التي في المعارضة. وهناك القهر الديني والثقافي. ويقوم على إجبار الناس على الإيمان بعقائد دينية، سُنية أو شيعية، أو سياسية معينة، اشتراكية أو قومية، نازية أو فاشية كما حدث في التاريخ بإجبار الناس على القول بخلق القرآن أو انبساط الأرض دون كرويتها أو مركزيتها ودوران الشمس حولها، وإجبار الناس على اتباع تأويل معين للنص الديني أو التضييق عليهم في السلوك اليومي باسم تطبيق الشريعة. بل ويحدث ذلك أيضاً في الفنون والآداب، وليس فقط في العلوم والديانات، وإجبار صغار المبدعين على اتباع مذهب معين في الفن والأدب. وهناك أيضاً القهر الاقتصادي، قهر الفقر والضنك والعوز والحاجة. يشعر به العامة قبل الخاصة. هو قهر رغيف العيش والقوت اليومي. وهو ناشئ عن سوء توزيع الثروة في بعض البلاد. ويؤدي إلى الغش والاحتيال لدى الأغنياء ليزدادوا غنى، ولدى الفقراء من أجل غريزة حب البقاء. وبسببه قد تقوم الهبَّات الشعبية وثورات الجياع. والأخطر من ذلك كله القهر الاجتماعي، قهر العرف والعادات والتقاليد الذي نقده القرآن الكريم (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون) وفي آية أخرى (... مهتدون). وعلى هذا الأساس لم يعتبر الأصوليون القدماء التقليد مصدراً من مصادر العلم مثل الحس والعقل والخبر الصحيح. وثار المصلحون الدينيون المعاصرون كالشوكاني والأفغاني ومحمد عبده أو الليبراليون مثل الطهطاوي على التقليد، وجعلوه أحد أسباب التخلف الاجتماعي والانحطاط الحضاري. اتباع التقاليد هو اتباع القدماء. القدماء هم الأوائل. عاشوا في الماضي. وتغير الزمن. ولكل زمن عاداته وتقاليده وأعرافه. وكثيراً ما كتب علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا عن تطور العادات الاجتماعية، وتغير التقاليد. هي تعبير عن سلوك الناس في كل وقت. والزمان متغير، والتقاليد تتغير بتغيره. التقليد اشتقاقاً يعني الاتباع في حين أن التجديد يعني الإبداع. ويتهم أنصار التقليد أنصار التجديد بالابتداع. وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. فيؤثر الناس السلامة والاتباع عن غير اقتناع. ويتبع الناس العرف وهو العادات الشعبية السائدة. وتسود الأعراف الطبقات الشعبية مثل ختان الإناث وما يسببه من قهر نفسي للأنثى منذ الطفولة حتى البلوغ. ويتبع الناس العادات الاستهلاكية في الأعياد مثل مأكولات رمضان ومشروباته وكعك العيد بما لا تطيقه ميزانية الأسر، وضرورات التباهي والتفاخر بين الناس. وقد يؤدي ذلك إلى جرائم بين الرجل وزوجه. وهي عادات وأعراف من وضع المجتمع وتطوره عبر التاريخ لتوظيفها اجتماعياً لخلق دين شعبي موازٍ للدين الشرعي. يلهي الناس ويبعدهم عن ظلم النظام الاجتماعي. وتحول التيارات المحافظة في المجتمع هذه العادات والأعراف إلى ثوابت مع أنها متغيرة بتغير المجتمع. ومنها عادات ترجع إلى صدر الإسلام والفتنة الأولى مثل التلاعن، وأقوال مأثورة مثل "إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن"، وأدبيات الطاعة. الثوابت هي القيم الإنسانية العامة التي لا تتغير بتغير الزمان مثل حقوق الإنسان، واحترام النفس، والعدالة الاجتماعية، والمساواة بين البشر في الحقوق والواجبات، والحريات العامة، والشورى، والمصالح العامة. وهي المقاصد العامة التي تقوم عليها الشريعة، الحفاظ على الحياة والعقل والدين والعرض والمال. الحياة هي الحاجات الأساسية للناس من طعام وشراب ولباس وسكن وتعليم وعلاج. والعقل هو حق الإنسان الطبيعي في المعرفة والفكر والنظر. والدين هو الثوابت العامة التي يجتمع عليها الفقهاء. والعرض هو الكرامة الشخصية والوطنية. والمال هو الثروة الفردية والثروة العامة. وقد وضعت بعض المجتمعات التقليدية عدة قوانين للضبط الاجتماعي لمنع تحركه مثل قانون العيب، وقانون الاشتباه، وقوانين حماية المجتمع والأمن والاستقرار السياسي مثل قوانين الطوارئ ومكافحة الإرهاب. مهمتها إرهاب الناس وتخويفهم ومنعهم من السلوك الطبيعي التلقائي القائم على الثقة بالنفس واحترام الآخرين. ثم تحولت هذه القوانين إلى عادات وتعبيرات مثل "عيب عليك"، "يا عيب الشوم"، "حشومة"، "اختشي"، "يا نهار أسود"، "يا دهوتي"، "يا مصيبتي". وأصبح كل خروج على هذه القوانين انحرافاً وشذوذاً. ولما كان المجتمع يتقدم بصرف النظر عن أساليب الضبط الاجتماعي، تنقسم الحياة إلى ظاهر يتبع التقاليد والأعراف والعادات، وباطن يتبع تطور الحياة وتغير قواعد السلوك الاجتماعي. فتنشأ مظاهر النفاق والرياء والتظاهر والكذب. قول باللسان لا يقتنع به القلب. وسلوك في الظاهر لا يتم عن إيمان بالباطن. وتصبح الحياة كلها حجاباً في الظاهر، وسفوراً في الباطن. كما تنشأ ظواهر الكبت وأمراض القهر النفسي وقمع الرغبات. ويعيش الإنسان بشخصيتين. ويقابل المجتمع بوجهين. وجه يرضاه المجتمع، ووجه آخر يرضاه الفرد، لا يجرؤ على التعبير عنه صراحة. ويكون له سلوكان، سلوك اجتماعي علني، وسلوك آخر فردي سري. الأول كاذب، والثاني صادق. فإذا ما تجرأ أحد على الإعلان والتمسك بالوجه الواحد والسلوك الواحد والشخصية الواحدة تم إقصاؤه واستبعاده واتهامه بالردة والكفر، وكان جزاؤه القتل الصريح. ويؤثر البعض السلامة والرضا بالسلوك الاجتماعي، وينغمس في الدنيا ينهل منها بالحلال. والأرزاق مقدرة مسبقاً. ومع ذلك ظهرت نماذج ثائرة على هذا القهر الاجتماعي في التاريخ، في كل عصر، وفي كل ثقافة، ولدى كل شعب. ثار سقراط على تعدد الآلهة عند الأثينيين، فاتُّهم بإفساد الشباب. وحُكم عليه بالموت سماً. ورفض الهرب درءاً للظلم، وهو رذيلة، طاعة لقوانين البلاد وهي فضيلة. وثار ديكارت على عادات العصر الوسيط في التفكير والتعلم. وثار اسبينوزا على العقائد اليهودية مثل "شعب الله المختار" و"أرض المعاد". وحُرق جيوردانو برونو حياً في روما لأنه قال بعقيدة مخالفة للفلك السائد ولتصور الإنسان. وثار مارتن لوثر على الكنيسة رافضاً توسطها بين الإنسان والله، واحتكارها لتفسير الكتاب المقدس وتبعيتها لسلطة الآباء الأولين. قُدِّم المفكرون الأحرار الذين رفضوا عادات وتقاليد وأعراف القدماء أمام محاكم التفتيش في أواخر العصر الوسيط الأوروبي. وكان جزاؤهم القتل أو الحرق أو التعذيب أو النفي أو السجن. وفي تاريخنا القديم حدث نفس الشيء. فقد ذبح الجعد بن درهم يوم عيد الأضحى أسفل المنبر لأنه كان معارضاً للحكم الأموي ويقول بقدرة الإنسان على الاختيار. وقتل أبو نواس بتهمة الزندقة. وصلب الحلاج بتهمة الخروج على العقائد. وذبح السهروردي لقوله بحكمة الإشراق. كانت كل حركات التجديد والتحديث والنهضة والإصلاح والتغير الاجتماعي والنهضة الحضارية والثورة ضد القهر الاجتماعي بالرغم من سطوته. وكان الاستسلام للقهر الاجتماعي أحد أسباب الركون والخمول والتأخر والانحطاط. لا تقوم نهضة على قهر، ولا تقدم على تقليد، ولا ثورة على تسليم. في لحظات الانتصار يتم تغيير التقاليد، وفي لحظات الانكسار تتم المحافظة عليها حماية للمجتمعات. وهي حماية وقتية بالانكفاء على الداخل لحماية النفس بعد أن ضاع العالم. ولما كان المجتمع العربي يمر الآن بمرحلة انكسار، باستثناء المقاومة في العراق وفلسطين، اشتد القهر الاجتماعي. ولما كان أيضاً يتوق إلى الانتصار يكون تحرره من القهر الاجتماعي قريباً.