ليس سراً القول إن ثمة قناعة دولية وعربية وإسلامية بأن إيران وسوريا تتدخلان في الشؤون الداخلية اللبنانية. وكل منهما يستفيد من أوضاع أو أوراق أو قوى أو قضايا لخدمة مصالحه. ولذلك تشتد المطالبات لكلتيهما بوقف هذا التدخل، بل تتعرض الدولتان لصغوط كبيرة لتحقيق هذا الغرض. ومع وصول هذه القناعة إلى حدود حاسمة وراسخة وبلوغ الضغوط مرحلة متقدمة محرجة، بدأنا نسمع في إيران وسوريا، وعلى لسان كل مسؤول في الدولتين الشعارات التالية: "إننا ندعم ما يتفق عليه اللبنانيون". "يجب أخذ كل الآراء بعين الاعتبار". "إن الأمور تحل بالإجماع وبالتوافق بين اللبنانيين". والسبب في ذلك ليس الرغبة في الاستناد إلى منطق، إذ لا منطق فيه، ولا الرغبة في تحقيق التوافق، لأنه حصل على طاولة الحوار في شهر مارس 2005، وفي النقاط السبع في يوليو 2006 إبان الحرب الإسرائيلية على لبنان، وقد نسفوا كل شيء ومنعوا تطبيق أي بند تم التوافق حوله، وكانت مفضوحة عملية الانقلاب على الإجماع الذي تحقق حول النقاط السبع في لبنان، والتي قادها الرئيس إميل لحود في قمة الرياض عندما ذهب يقول إن مجلس الوزراء "أخذ علماً بالبند المتعلق بمزارع شبعا ولم يقرّه بالإجماع". وذلك خلافاً للوقائع والحقائق التي لم يتمكن من نفيها حلفاء الرئيس، لكنهم شنوا حملة مبرمجة على هذا البند واقتراح تسليم المزارع مؤقتاً إلى القوات الدولية، وذلك كمخرج مؤقت لإزالة الاحتلال الإسرائيلي ريثما يتم ترسيم الحدود مع سوريا في تلك المنطقة. والحملة وجه آخر لعملية إسقاط الإجماع. وتزامنت مع التأكيد السوري أنه ولو كانت المزارع لبنانية، فإن حل مشكلتها يتم بعد تطبيق القرارين 242 و 338 اللذين لا علاقة للبنان بهما! بل هما قراران يتعلقان بموضوع الجولان وبالتالي، تم الإصرار على الربط بين تحرير المزارع وتحرير الجولان، وإذا حصل التحرير في آن واحد، فلا مشكلة لكن ذلك لا يعني أنه إذا أتيحت فرصة لتحرير المزارع، وقد أجمع حولها اللبنانيون، فيتنكر البعض للإجماع ويسقطه مع الفرصة، خدمة لأهداف الآخرين. على كل حال، وبالعودة إلى شعار الإجماع الضروري في لبنان المرفوع في سوريا وإيران، وفي سياق المتابعة الدقيقة للأوضاع في كلا البلدين، وما يجري فيهما اليوم، يمكن رصد الملاحظات وطرح التساؤلات التالية: - جرت انتخابات نيابية في سوريا منذ أيام. معظم وسائل الإعلام العربية والعالمية تحدثت عن "إقبال ضعيف فاق فيه عدد المندوبين الناخبين" وقاطع فريق كبير من السوريين الانتخابات. واتهم هذا الفريق بأنـه "أميركي"، إذ "لا فرق بين الأميركي وبين المعارضة التي لا ترغب أن نبني بلدنا"، و"الأميركي يعتمد في المنطقة على المهزومين داخلياً وعلى المهزومين نفسياً"، كما قالت الوزيرة بثينة شعبان. هل ثمة إجماع في سوريا حول هذا الأمر؟ وهل ثمة إجماع حول مفهوم الديمقراطية وممارستها وعدد كبير من أركان المعارضة في السجن وحكم عليه لسنوات؟ وهل ثمة إجماع حول السياسات المعتمدة في الداخل والخارج؟ هل مجلس الشعب يمثل كل السوريين مثلاً؟ وهل الحكومة التي ستنبثق عنه تمثل كل السوريين؟ أنا لا أعتقد أن تحقيق الإجماع ممكن في أي مكان. وفي معزل عن رأيي في تقييم الوضع السياسي الداخلي السوري، وهذا أمر يعود حسمه إلى الشعب السوري نفسه، فإن النقاش هو حول معيار ومنطق، فإذا كان الذي يجري في سوريا ديمقراطية، وإذا كان الإجماع بالتالي غير متوفر، وإذا كانت السياسات لا تأخذ هناك آراء الجميع بعين الاعتبار، فلماذا الإصرار إذاً وبقوة على التمسك بهذه الشعارات الضروري وجودها في لبنان، والتمترس وراءها لتبرير تصرفات سياسية معينة؟ لماذا رفض الإجماع داخل سوريا ومحاولة فرض الإجماع في لبنان، أو رفع الشعار لعرقلة حلول؟ أما في إيران، وفي ظل قراءات واطلاعات على الأوضاع السياسية فيها، فإن أسئلة وملاحظات كثيرة تُطرح أيضاً منها: - ثمة خلاف عميق حول ولاية الفقيه هناك. وعدد من آيات الله العظمى في "قُم" نفسها لا يؤمنون بها. وهي المسألة المركزية المحورية في الحكم وتسيير شؤونه، وعلى أساسها تتخذ قرارات كثيرة استراتيجية خطيرة، تؤثر على الشعب الإيراني في الداخل وعلى مصالحه في الخارج. وبالتالي هل ثمة إجماع حول هذه المسألة؟ لا، وهل في الاعتماد عليها أخذت آراء الجميع بعين الاعتبار؟ لا. - ثمة خلاف كبير حول إدارة الملف النووي مثلاً. وسمعنا وقرأنا وشاهدنا مسؤولين إيرانيين كباراً، ومعارضين، ومثقفين وطلاباً يرفعون الصوت ضد إدارة وتصريحات وموقف الرئيس أحمدي نجاد، فهل ثمة إجماع هنا؟ وهل أخذت آراء الجميع بعين الاعتبار؟ لا. - ثمة معارضون منفيون. ومعارضون معتقلون، ومعارضون مغيبون، ومعارضون مطاردون ومهددون ومقموعون، وكل يوم يصدر عنهم شيء. فهل أخذ هذا الشيء بعين الاعتبار، وهل اعتبروا جزءاً من الإجماع الضروري؟ لا. - ثمة خلاف حول الانتخابات والقوانين والإجراءات الاقتصادية لمواجهة التطورات والاستحقاقات الحالية، فهل أخذت آراء الجميع بعين الاعتبار؟ لا. - ثمة فريق كبير (السُّنة) يطالبون على سبيل المثال بحق بناء مسجد في طهران، ولا يحصلون على هذا الحق، فهل هذا جزء من الإجماع؟ أم جزء من احترام رأي الآخر وأخذه بعين الاعتبار؟ بالتأكيد لا. - ثمة خلاف واجتهادات كثيرة وكبيرة حول حقوق المرأة وقد عبر عنها أيضاً عدد من آيات الله العظمى في "قم"، فهل ما يجري يحقق إجماعاً وتأكيداً لاحترام آراء الجميع وحرصاً على إشراكهم؟ - أما الخلاف على اللبس، فثمة حملة اليوم اسمها "حملة الصيف"، تستهدف حرية الإيرانيات في اختيار ملابسهن، ووصلت إلى حد "تحذير المخالفات قبل اقتيادها إلى مراكز إصلاح إذا أبدين اعتراضاً..."، وقد انتقد بعض آيات الله هذا الشيء. وشكـّل صدمة في أوساط فريق من الإيرانيات. فهل ثمة إجماع هنا؟ وهل تم احترام آراء الإيرانيين والإيرانيات في هذا المجال؟ لا. هذه عينة من الملاحظات والأسئلة التي تطرح، وتؤكد أن ليس ثمة تأكيد وتكريس في إيران نفسها للمبدأ الذي يعلنه السياسيون الإيرانيون عندما يتناولون الوضع اللبناني، فهلاّ اختاروا شعارات أخرى لإقناع الناس بصوابية ونقاء وصفاء نياتهم؟ ثمة إجماع على أنه لا إجماع في أي مكان. وعندما يتحقق أي إجماع حول أية قضية وفي أي دولة أو مجتمع، فهذا أمر ممتاز. لكنه يأتي نتاج اتفاق بين جميع القوى المحكومة لهذه الدولة أو هذا المجتمع، إذ ثمة تعريف واحد للإجماع: أن يوافق الجميع. وبالتالي ألا يتفرد أي فريق في اعتماد أي خيار يؤثر في النهاية على الجميع دون موافقة الكل. وبالتأكيد ليس ثمة "إجماع" على طريقة المعارضة اللبنانية، التي تصر على تنفيذ ما تراه مناسباً في مواضيع معينة إذا لم يتوافق معها الشريك الآخر، وتطالب بالإجماع في مواضيع أخرى. وليس ثمة إجماع في سوريا وإيران يمكن الاستناد إليه للإصرار على شعارهما في لبنان الذي يخفي غايات أخرى طبعاً فضلاً عن أنه من المفترض ألا يكون لهما حق التدخل في شؤون غيرهما! إنها ملاحظات فقط للتوضيح بعدما كثر التصريح والتلميح حول الإجماع.