تُساهم الملصقات واللوحات الإعلانية في مدينة "إيكس أون بروفانس" في تسليط قليل من الضوء على الثقافة السائدة في هذه المدينة الفرنسية الوديعة، حيث تسود "فكرة عش ودع الآخرين" يعيشون من دون تعقيدات قد تعكر صفو المدينة الهادئة. ففي صباح كل يوم، ونحو نقطع الثلاثين دقيقة من المشي التي تقودنا إلى أحد الأحياء، تُطالعنا ملصقات كتب عليها: "لا تسامح مع خدمة التوصيل". والحقيقة أن الصياغة التي كتب بها الإعلان مثيرة للانتباه، لاسيما استخدام كلمة "تسامح"، ذلك أنه بدلاً من أن تكون خدمة التوصيل في الشارع المزدحم بحركة المرور محظورة، أو أنها غير مقبولة، أو حتى غير محبذة نجد أنه، حسب الفرنسيين، أمر لا يمكن التسامح معه. فماذا يعني ذلك؟ الواقع أن الحديث عن التسامح لا يقتصر فقط على الملصقات الإعلانية، بل أصبح سمة غالبة على مجمل النقاش السياسي الفرنسي بما فيه الانتخابات الرئاسية الحالية. فالتسامح، على الأقل في ارتباطه بالأسلوب الشخصي، وغرابة الاستخدام كما رأينا في الإعلان، يبقى ميزة فرنسية من دون استثناء، حتى والبلد يخوض انتخابات رئاسية، ويطرح تساؤلات تمس وضع فرنسا الاقتصادي ومكانتها المتراجعة، فضلاً عن قضية الهجرة. هذه الخصوصية الفرنسية اللافتة في التعامل مع التسامح، وما ينتجه من ثقافة "عش ودع غيرك يعيش"، يمكن رصدها في المرشحين الذين تأهلا للدورة الثانية من الانتخابات. فالمرشحة الاشتراكية "سيجولين رويال"، أنجبت أربعة أبناء خارجة مؤسسة الزواج، ولم تعقد قرانها قط على رفيقها. ومن جانبها هجرت زوجة المرشح الآخر "نيكولا ساركوزي" بيت الزوجية لبعض الوقت قبل أن تعود إليه مجدداً. هذه الحقائق من شأنها أن تحدث تصدعات كبيرة لو حدثت مع مرشحين أميركيين في انتخابات رئاسية أو ما شابه. لكن في فرنسا تواصل الحياة مسيرتها الاعتيادية دون مشاكل. ومع ذلك ينذر الأسبوعان القادمان، وهي الفترة التي تفصلنا عن الجولة الثانية، باحتدام التنافس ما قد يخرق القواعد التقليدية في المجتمع الفرنسي التي تدع الأمور تمر بإيقاعها الخاص. فمع استمرار تقدم المرشح اليميني "نيكولا ساركوزي" على غريمته الاشتراكية "سيجولين رويال"، كما تشير إلى ذلك استطلاعات الرأي، أعلن أحد المعلقين على تلفزيون "بي.بي.سي" أن "رويال" قد تلجأ في نهاية المطاف إلى دعوة الفرنسيين إلى الاستفتاء على شخصية "ساركوزي". "ساركوزي"، على كل حال، هو المرشح الذي أغضب الجالية المهاجرة عندما كان وزيراً للداخلية ونعت الشباب المنحدر من أصول عربية، أو أفريقية، الذين يقطنون ضواحي باريس والعاطلين عن العمل بـ"الحثالة" إثر أعمال الشغب التي اندلعت في الضواحي قبل أكثر من سنة. كما أنه أغضب الكثير من أنصار "اليسار" الفرنسي وأنصار "الوسط" بمغازلته لناخبي "اليمين" المتطرف للحصول على أصواتهم، فضلاً عن اقتراحه المثير للجدل بإحداث وزارة للهجرة والهوية الوطنية. وهو أمر يعترف به أنصار "ساركوزي" أنفسهم، حيث أخبرني أحدهم أن شخصية المرشح "اليميني" هي "فعلاً مثيرة للجدل، كما أن العديدين لا يرتاحون له". لكن مع ذلك يظل "ساركوزي" المرشح المفضل للذين يتطلعون إلى تحديث الاقتصاد الفرنسي، ولمن لم يعودوا قادرين على التسامح أكثر مع دولة الرعاية الاجتماعية التي تعيق، في نظرهم، النمو الاقتصادي. ورغم أن خطاب "ساركوزي" الانتخابي أصبح أكثر حذراً مع احتدام السباق إلى قصر الأليزيه، فإنه سعى في الوقت نفسه إلى ترسيخ وضعه كمرشح مستعد لإدخال التغييرات الضرورية على الاقتصاد لإخراجه من القيود الكثيرة التي تثبطه مثل حصر ساعات العمل الأسبوعية في 35 ساعة، والعراقيل التي تمنع المشغلين من تسريح العمال. وبالطبع تستقطب هذه الوعود بتغيير المناخ الاقتصادي العديد من الفرنسيين، لاسيما في بلد تصل فيه نسبة البطالة الرسمية إلى 8.5% ويستمر الدين العام في الارتفاع، فضلاً عن انخفاض الدخل الفرد الفرنسي من احتلاله المرتبة السابعة عالمياً إلى المرتبة السابعة عشرة، حسب صحيفة "نيويورك تايمز". ولا يعني ذلك أن "رويال" لا تواجه مشاكلها الخاصة في الانتخابات الرئاسية، بل تعرضت لتشكيك في عدم تمكنها من القضايا المطروحة وقدرتها على القيادة. وفي حين تحسنت قدرات "رويال" الخطابية مقارنة مع بداية حملتها الانتخابية، مازالت تنتقد بسبب أجندتها السياسية، حيث سعت إلى التركيز على ترويج صورة "أم فرنسا" خلافاً للغة القاسية التي يتبناها "ساركوزي". لكن رغم العيوب التي تلاحق المرشحين شهدت الجولة الأولى من الانتخابات نسبة عالية من المشاركة وصلت إلى 84% مقارنة مع نسبة 64% في الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2004. وفي بلد يسمح فيه للكلاب بالتجول تحت أقدام الزبائن في المقاهي دون وثاق، وحيث يترك أمر اقتناء تذاكر المواصلات العامة للمواطن باعتبارها مسألة شرف وضمير، وحيث تجد لوحة إعلانية تخاطب فيها عارضة أزياء الجمهور بقولها "معي لا يوجد حدود للجنس"، فإن أموراً مثل التسامح وكيف يريد الفرنسيون أن يحكموا ستؤثر كثيراً على نتائج الانتخابات الحالية. ومع أن القليلين فقط هم من يعتقدون أن فرنسا مستعدة فعلاً للتخلي عن تقاليدها، وفي تغيير نظرتها للوقت القائمة على إدراك أهميته، وفي نفس الوقت عدم التسرع، فضلاً عن تخليها عن استقلالها عن الولايات المتحدة وشركائها الأوروبيين، إلا أن درجة تسامحها مع حتمية التغيير الاقتصادي، وتسامحها مع الجالية المهاجرة وضمان وظائف لهم هو ما سيحدد الفائز خلال الجولة الثانية من الانتخابات في السادس من شهر مايو المقبل. ــــــــــــــــــــــ أستاذ الصحافة في جامعة "إيميرسون" ببوسطن ــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"