على تشتت الجبهات التي تقاتل فيها إدارة بوش الآن، فإن الأولوية القصوى التي تتبناها إدارته فيما يبدو الآن، هي تأجيل كل ما ليس منه بدٌ. ولنذكر بهذه المناسبة أن وزير دفاعه السابق، دونالد رامسفيلد، كان قد وصف متمردي العراق بأنهم "حفنة لا تذكر من مجموعة بالية مؤلفة من الرافضين للتسليم بحقيقة أن العالم قد تغير من حولهم". وللمفارقة العجيبة، فكم أضحت تلك العبارة، وصفاً بليغاً للإدارة نفسها التي عمل بها رامسفيلد، خاصة إذا ما تذكرنا أن بوش نفسه، قد أصبح يحمل صفة البلى هذه بالذات. ولكي لا نطلق القول جزافاً، فلنعطِ لذلك بعض الأمثلة ابتداءً من الحوار العام الذي دار حول أبحاث الخلايا الجذعية. فقد وقف بوش في عزلة لا توصف في عرقلة أي تمويل فيدرالي لها. وقد حظي في موقفه ذاك بمؤازرة المحافظين من رجال الدين. لكن ما أن صادق مجلس الشيوخ على مشروع قانون ينص على تخفيف القيود المفروضة على التمويل الفيدرالي لتلك الأبحاث، خلال شهر أبريل الجاري، حتى قوبل ذلك القرار بتأييد نحو 525 منظمة طبية واستثمارية وأكاديمية. يشار إلى أن 63 عضواً من أعضاء مجلس الشيوخ، صوتوا على هذا المشروع القانوني، فيما عدا اثنين من الأعضاء "الديمقراطيين" الحاضرين، و17 عضواً من الأعضاء "الجمهوريين"، بمن فيهم بعض المحافظين من أمثال ترينت لوت، وأورينش هاتش. وبين كافة المرشحين الرئاسيين "الجمهوريين" البارزين، لم يشاطر الرئيس بوش في موقفه الرافض لتمويل تلك الأبحاث، سوى المرشح "مت رومني". وفي حين صوت جون ماكين لصالح القانون، فقد أعرب منافسه رودي جولياني عن تأييده له. إلى ذلك أبدى كافة المرشحين الرئاسيين "الديمقراطيين"، تأييدهم للتوسع في تمويل هذه الأبحاث. وربما لجأ بوش إلى استخدام حق النقض "الفيتو" ضد القرار التشريعي الجديد، غير أن هذا الموقف المعارض، أصبح من النشاز بحيث يرجح إعادة النظر فيه، من قبل الرئيس الذي سيخلفه في المنصب عقب انتخابات فبراير 2008. وتنطبق صفة البلى نفسها على موقف الرئيس من التغير المناخي وخطر الإحماء الشامل. فبوش لم يتجاهل هذه المشكلة تماماً. وقد عمد بالفعل إلى زيادة تمويل الأبحاث في مجال التكنولوجيا الخضراء، ووقود الفحم النظيف ومصادر الوقود الحيوي المتقدم. غير أنه ظل على معارضته لتلك الخطوة الحاسمة، التي تتطلب انتقال هذه التقنيات الجديدة من المختبرات العلمية إلى السوق. كما يعارض بوش كذلك، فرض أي معايير وشروط ملزمة للصناعات بخفض نسبتها من انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون وغيره من الغازات السامة الأخرى، المسببة لظاهرة الإحماء الشامل. والحقيقة أن تعنت بوش في جميع هذه القضايا، يجعله شبيهاً بالدب القطبي الذي يتمسك ببقائه في بيئة تنحسر من تحت قدميه كل يوم! وللمفارقة، فقد أشارت آخر دراسة لاستطلاع الرأي في أوساط الراشدين الأميركيين، أجرتها "مؤسسة غالوب العالمية" إلى تأييد أربعة أخماس الراشدين لاتباع إجراءات ملزمة للصناعات بخفض انبعاثات غازات بيت الزجاج، بمن في هؤلاء ثلثا "الجمهوريين". ولنا الآن أن نضرب مثلاً على هذا التمسك بالمواقف البالية، بما يجري في العراق. فقد أصبح مستقبل حربنا هناك أكثر قتامة وإظلاماً. ومع ذلك فإنه لم تصدر بعد عن بوش أي إشارة إلى احتمال تمسكه المفتوح الأمد باستكمال المهمة التي بدأها بغزوه للعراق في صيف عام 2003. وحتى هذه اللحظة، فإن قوة الموقف "الجمهوري" المؤيد له في الكونجرس، لا تزال تمثل سنداً له في تمسكه هذا. غير أن هناك مؤشرين مهمين على دنو حدوث صدع في هذا الجدار العنيد الصلد. أولهما إنهاك القدرة العسكرية للجنود. وحسب المعلومات الصادرة مؤخراً عن "البنتاجون" فقد مددت فترة بقاء الجنود المنتشرين في كل من العراق وأفغانستان من 12 إلى 15 شهراً، وهي أطول مدة يقضيها المقاتلون في ساحات القتال، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. أما المؤشر الثاني، فيتمثل في تصاعد السخط الشعبي العام على الحرب الدائرة على العراق. وقد أشار آخر استطلاع للرأي، إلى اعتبار نسبة تزيد على 60 في المئة من الأميركيين لتلك الحرب "خطأً" ما كان له أن يحدث. وهكذا يتجه الرأي العام إلى تشديد المطالبة بالانسحاب من العراق. ــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"