لجورج تينيت قصةٌ يحكيها. فمن خلال ظهوره ليلة الأحد في برنامج "60 دقيقة" التلفزيوني ومذكراته التي نشرها مؤخراً بعنوان "في قلب العاصفة" (At the Center of the Storm)، يسعى المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية "السي آي إيه" إلى النأي بنفسه عن إخفاقات الحادي عشر من سبتمبر والعراق. ومما لاشك في أنه سيبيع كتباً كثيرة، غير أنه ينبغي ألا تنطلي علينا محاولاته للتنصل من مسؤولياته. تعود علاقتي بــ"تينيت" إلى أواخر عقد الثمانينيات حين كان يشغل منصب مدير موظفي "لجنة الاستخبارات" التابعة لمجلس "الشيوخ"، وكنت أنا الموظف بـ"السي آي إيه" الذي يُطلعه على البرامج والأنشطة السرية في أفغانستان. وبعد ذلك، عملت مباشرة تحت إمرة "تينيت" بعد أن تولى إدارة "السي آي إيه"، حيث أصبحتُ أول رئيس لـ"وحدة بن لادن" في الوكالة. كنا نلتقي بانتظام، وأحياناً كثيرةً يومياً. والحق أنه من الصعوبة أن يكره المرء "تينيت"، فهو ذكي ومهذب ومتفانٍ في العمل وودود ويهتم بالتفاصيل، إلا أنه لم يكن موفقاً في إدارة الوكالة وقيادتها. سيتذكر الكثيرون في "السي. آي. إيه" هذا الرجل، باعتباره حاول التنصل من الدور المركزي الذي لعبه في تراجع هذا الجهاز السري الأميركي. هذا التراجعٌ بدأ في أواخر الثمانينيات، أي مع قرب نهاية الحرب الباردة، وكان بسبب تقليص ميزانية الوكالة، ومعها تقليص عدد الموظفين، وهو ما استمر إلى غاية الحادي عشر من سبتمبر 2001. فقد سعى "تينيت" ومدير العمليات قليل الخبرة، "جيمس بافيت"، تعليل ضعف الجهاز السري وإخفاقاته بالتقليص الذي طال ميزانية الوكالة. والحال أن "تينيت" ساهم في الإشراف على كل خطوة من خطوات تراجع الجهاز السري على مدى ثلاث إدارات أميركية متتالية -بوش الأب وكلينتون وبوش الابن- حيث شغل مناصب استخباراتية مهمة في مجلس الشيوخ ومجلس الأمن القومي ووكالة الاستخبارات المركزية. ويبدو أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر فقط، هي التي أقنعته بأهمية جهاز سري كبير وقوي بالنسبة لأمن الولايات المتحدة. وعلى غرار التسريبات الأولى التي قدمها في ما يبدو مقربون من "تينيت" إلى صحفيين من قبيل "رون سوسكيند" و"بوب وودوورد"، فإن كتاب "في قلب العاصفة" لا يقول كل الحقيقة بخصوص سجل تعامل "تينيت" مع "القاعدة". ففي كتاب "حالة الإنكار" (State of Denial) مثلاً، يرسم "وودوورد" صورة بطولية لرئيس "السي آيه إيه" الذي حذر مستشارة الأمن القومي "كوندوليزا رايس" من عمليات محتملة لـ"القاعدة" في صيف 2001، ولكن من دون أن يجد الآذان الصاغية. والحقيقة أن "تينيت" كان قلقاً بالفعل خلال ما يسمى بصيف التهديد، إلا أن المرء يتساءل لماذا لم يستجمع قوته السياسية مبكراً ويتهم "رايس" بالتقصير والإهمال، وبخاصة خلال إدلائه بشهادته تحت القسم أمام لجنة الحادي عشر من سبتمبر. فخلال جلسة الاستماع التي بُثت على شاشات التلفزة في الرابع والعشرين من مارس 2004، قال "تينيت": "لقد كنت أتحدث مع مستشارة الأمن القومي، والرئيس ونائب الرئيس يومياً"، وأضاف "الأكيد أنني لم أشعر بأن ثمة من لم يكن يولي الانتباه لما كنت أقوم به، وما كنت أُطلعهم عليه، وما كنا نحاول القيام به". أما اليوم، فيخبرنا تينيت "المحبَط" في كتابه بأنه عقد اجتماعاً عاجلاً مع "رايس" في العاشر من يوليو 2001 في محاولة للحصول على "الانتباه الكامل للإدارة". ولكن لا يمكن لـ"تينيت" أن يلعب على الحبلين. على أن أكثر ما كان يزعجني هو طريقة تعامل "تينيت" مع الفرص التي كان يقدمها عملاء "السي آي إيه" لإدارة كلينتون من أجل القبض على بن لادن أو قتله في الفترة ما بين مايو 1998 ومايو 1999. ففي كل مرة كنا نحصل فيها على معلومات استخباراتية بخصوص مكان بن لادن، كان "تينيت" يومئ برأسه ويُطمئن كبار مسؤولي الوكالة بأنه سيؤكد لكلينتون وفريقه المكلف بشؤون الأمن القومي بأن احتمالات القبض على بن لادن كبيرة، وبأنه لا يمكن توقع معلومات استخباراتية أفضل؛ إلا أنه كان يقول لاحقاً إن مجلس الأمن القومي قرر عدم تنفيذ الضربة. والحال أنه منذ 2001، صرح عدد من المطلعين على جهود محاربة الإرهاب البارزين (أمثال موظفي "مجلس الأمن القومي" ريتشارد إي. كلارك، ودانيل بينجامين، وستيفن سيمون) بأن تينيت كان يقلل دائماً من أهمية المعلومات بخصوص بن لادن، وهو ما كان يدفع الرئيس وفريقه إلى فقدان الثقة في المعلومات الاستخباراتية التي يتم الحصول عليها بمشقة. واليوم يقول لنا "تينيت" في كتابه: "لم نستطع أبداً تجاوز عقبة القدرة على تأكيد مكان بن لادن"، وهو ما وفر عنه في الواقع مسؤولية شرح العواقب والتداعيات في حال فشل محاولة القبض على بن لادن أو قتله. ولئن كان ذلك لا يعفي كلينتون من مسؤولية التقصير بخصوص موضوع حماية الأميركيين، فإنه يُظهر أيضاً استعداد "تينيت" الكبير لاستغلال عملاء "السي آي إيه" الذين كانوا يجازفون بحياتهم من أجل جمع المعلومات الاستخباراتية، ومن ثم التقليل من أهمية عملهم تلافياً للمساءلة والمراقبة في حال فشلت إحدى العمليات. أعترف أنه كانت بيني وبين "تينيت" اختلافات في وجهات النظر بشأن الطريقة الأفضل بخصوص بن لادن (يُذكر هنا أنه يقلل في كتابه من شأن توصياتي باعتباري "محللاً لم أتلق تدريباً بخصوص العمليات شبه العسكرية"). أما الحقيقة، فهي أننا في كل مرة كنا نحصل فيها على معلومات بخصوص مكان بن لادن، كنت أدعو إلى تنفيذ ضربة استباقية. فبحلول مايو 1998، كانت "القاعدة" قد ضربت، أو ساعدت في ضرب، خمسة أهداف أميركية؛ وكان بن لادن قد أعلن الحرب على الولايات المتحدة مرتين. وأعترف أنني لم أكن أكترث –ومازلت- للخسائر البشرية في مثل هذه الظروف، ما دام معظم المدنيين المجاورين للهدف (بن لادن) هم من العائلات التي جلبها رجالُه إلى منطقة حرب. أما "تينيت"، فقد كان يكترث، وكان يقول: "لا يمكننا أن نقتل الجميع". والواقع أن ذلك قلق إنساني مثير للإعجاب من الناحية النظرية، إلا أنه لا يقدم شيئاً لحماية الولايات المتحدة؛ ذلك أن آلاف العائلات الأميركية لم تكن لتنتحب اليوم، لو كان ثمة مزيد من القوة والحزم لدى فريق كلينتون، ومشاعر أقل. مايكل شويار ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الرئيس المؤسس لوحدة بن لادن في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، ومؤلف كتابي "Imperial Hubris" (الغرور الإمبراطوري) و"Through Our Enemies' Eyes" (من زاوية أعدائنا) ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"