عندما طلبت الولايات المتحدة الأميركية من كل من بولندا وجمهورية التشيك إقامة نظم دفاعية صاروخية على أراضيهما للمرة الأولى، كان قد نظر إلى نظم الاعتراضات والرادار تلك على أنها خطوة احترازية حصيفة ضد طهران، فضلاً عن كونها ضماناً لأمن أوروبا، باعتباره جزءاً لا يتجزأ من أمن الولايات المتحدة الأميركية، مع العلم بأن القارة الأوروبية قطعت شوطاً في بناء نظمها الدفاعية المستقلة. لكن ما أن رفضت موسكو تلبية دعوة جديدة من واشنطن للتعاون معها في نظام الدفاع الصاروخي، وهو الرفض الذي أثار حيرة ودهشة واشنطن، لاسيما بعد أن هددت موسكو يوم الثلاثاء الماضي بالانسحاب من معاهدة الأسلحة التقليدية في أوروبا، حتى ووجهت تلك المبادرة بخطر توسيع الفجوة الأمنية الفاصلة بين روسيا وأوروبا، في ذات الوقت الذي زادت فيه من شكوك الرأي العام الأوروبي في مستقبل الأمن المشترك بين قارتهم وروسيا. وما هذا التوتر القائم الآن بين واشنطن وموسكو، وهو التوتر الذي يخشى الكثير من الأوروبيين أن يرفع الستار مجدداً عن حقبة ما من حقب الحرب الباردة، إلا مثال واحد على الكيفية التي تعلن بها كل من واشنطن وموسكو اعتزامهما التعاون والعمل معاً، بينما هما تستدعيان في الواقع قاموس الماضي ومفرداته. من جانبها تقول واشنطن إن نظام الدفاع الصاروخي هذا، لا يخص أحداً آخر سوى إيران. وتقول وكالات وأجهزة المخابرات الأميركية إن طهران ماضية في تطوير صواريخ بعيدة المدى، لها القدرة على ضرب أهداف في قلب القارة الأوروبية، في ذات الوقت الذي تواصل فيه مساعيها لتطوير أسلحتها النووية. أما موسكو فلها رأي آخر مختلف تماماً، إذ لا ترى لتلك النظم الدفاعية الأميركية هدفاً آخر سوى روسيا نفسها، طالما أن سنوات بعيدة تفصل بين إيران وأي مهدد أمني جدي تمثله للقارة الأوروبية. ولذلك فإن من رأي موسكو أن النظم الدفاعية الصاروخية المزمع نصبها في دول شرق أوروبا، إنما قصدت منها واشنطن أن تكون بمثابة "حصان طروادة" لها كي تستخدمه لتحييد الوحدات الصاروخية الاستراتيجية الروسية. غير أن من رأي الولايات المتحدة الأميركية أن دعوتها لموسكو للمشاركة في تكنولوجيا الدفاعات الصاروخية، ستسمح لروسيا بالمساهمة في بناء شراكة أكثر تقدماً ونضجاً مع كل من أميركا وحلف "الناتو"، وأن جميع الأطراف ستحقق فائدة متبادلة من شراكة كهذه. لكن وعلى رغم ذلك، بقيت موسكو على اعتقادها الراسخ بأن كل تنازل قدمته لواشنطن في المجالين الأمني والعسكري، لم يعد عليها إلا بضرب طوق عسكري أكثر إحكاماً حولها من قبل حلف "الناتو". لذا فإن من الملاحظ اتخاذ كلا الطرفين مواقف متشددة إزاء بعضهما بعضاً، حتى قبل بدء التفاوض الجدي بينهما في هذه النظم الدفاعية المقترحة. وهذا هو ما يفسر قول واشنطن إنه ليس لروسيا حق النقض "الفيتو" على النظم الدفاعية الصاروخية التي تزعم واشنطن نصبها في أوروبا الوسطى. أما استجابة موسكو على هذا التصريح، فهي القول إنه ما من شيء سيغير معارضتها لذلك المشروع الأميركي. بل هددت كذلك بالانسحاب من عدة ترتيبات ومعاهدات دفاعية أخرى خاصة بالتحكم في الأسلحة، تعبيراً عن غضبها من محاولة واشنطن لتجاوزها فيما تريد الإقدام عليه في أوروبا الوسطى. على أن دراما هذه المواجهة الدفاعية الصاروخية بين الجانبين، لا تزال في مراحلها التمهيدية الأولية. كما لا يزال النظامان الدفاعيان الصاروخيان المزمع إقامتهما بتكلفة مالية تبلغ 3.5 مليار دولار، بعيدين عن التنفيذ ببضع سنوات من الآن. كما يمكن القول إن الحوار الدائر حالياً حول هذين النظامين الدفاعيين، لا علاقة له البتة بنصب نظم الرادار والاعتراضات الدفاعية. ولا تزال الشكوك الدفاعية تساور مدى كفاءة هذه النظم المزمع إنشاؤها. ويبقى الجانب الرئيسي فيها كفكرة إذن، هو مخاوف موسكو وما تثيره فيها من قلق بالغ على أمنها، وعلى دورها المستقبلي في الوجه الغربي من القارة الأوروبية. وهكذا تحاول كل من واشنطن وموسكو اللعب بما لديها من "كروت" إغراء وضغط على شعبي بولندا وجمهورية التشيك، مع العلم أنه لا يزال على برلمان كل من الدولتين المصادقة على هذه الخطوة أو رفضها. على أن اللعب بالأوراق ذاتها، يتجاوز بعيداً حدود هاتين الدولتين، ليشمل القارة الأوروبية العريضة كلها، في معنى من المعاني. لكن وفيما لو علقت واشنطن آمالاً عراضاً على أن يسفر انسحاب موسكو الأخير من معاهدة الأسلحة التقليدية، ثم رفضها للمشروع الدفاعي الصاروخي الأميركي المقترح، عن توحيد القارة والتفافها حول الخطط الأميركية الرامية لنصب 10 نظم اعتراض صاروخية في بولندا، ونظام رادار واحد في جمهورية التشيك، فإن على الأرجح أن تخيب آمالها تلك. لكن ومن وراء الأبواب المغلقة، فإن الذي لا ريب فيه أن حلفاء أميركا من الأوروبيين يبدون اعتراضاً قوياً على تهديدات روسيا الأخيرة. وتلك هي المشاعر التي أفصح الأوروبيون عنها خلال اجتماع مشترك عقد يوم الخميس الماضي، بين وزراء خارجية الدول الأعضاء في حلف "الناتو"، بمن فيهم كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأميركية، إلى جانب وزير الخارجية الروسية، "سيرجي لافروف". ذلك هو ما أكده مسؤولون أميركيون وأوروبيون، إما كانوا من بين الحضور داخل ذلك الاجتماع، أو ممن علموا رسمياً بما دار فيه. وعلى إثر بعثة قام بها "روبرت جيتس"، وزير الدفاع الأميركي، إلى موسكو مؤخراً، عرض خلالها على روسيا مشاركة بلاده في تكنولوجيا النظم الدفاعية الصاروخية المزمع إقامتها في بلدان أوروبا الشرقية، أعرب مسؤولون أوروبيون عن انتقاداتهم للموقف الروسي المعارض لتلك الخطط. ولعل ذلك ما دعا أحد الدبلوماسيين الأميركيين، رفض ذكر اسمه، إلى القول إن محاولة موسكو توجيه صفعة دفاعية لبلادنا، لم يعد سلوكاً مقبولاً اليوم لغالبية حكومات القارة الأوروبية. توماس شانكر ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ محرر الشؤون الخارجية لـ"نيويورك تايمز" في واشنطن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مارك لاندر ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مراسل صحيفة "نيويورك تايمز" في أوسلو ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"