ليست حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية وحدها في مأزق. بل أيضاً "حماس" في مأزق, و"فتح" في مأزق, و"اليسار" الفلسطيني في مأزق, ومنظمة التحرير الفلسطينية في مأزق, ومشروع الحل السلمي في مأزق, ومشروع المقاومة في مأزق. عملياً المصير الفلسطيني كله في مأزق حاد, وربما لم يواجه مثل هذه الحدة في أي وقت سابق. هناك تشتت كبير في البوصلة الوطنية الفلسطينية, وانخفاض مريع في سقف الاهتمامات والقضايا والمتابعات اليومية. بالتوازي مع ذلك, الوضع الإقليمي منهار, والوضع الدولي لا يضغط على إسرائيل, وإسرائيل وداعمتها الولايات المتحدة لا تشعران بضرورة أو أولوية حل الصراع, أو لا تريدان. الحقوق الفلسطينية الكبرى والأساسية، والتي شكلت جوهر الصراع، وأُسندت على الدوام بالقانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، لم تتعرض لتهديد "وجودي" كما الآن. لا تعود أسباب ذلك التهديد للترهل السياسي العربي والدولي فقط, حتى وإن عطف عليه اختلاط وانقلاب الأجندة الإقليمية بشكل مدمر للقضية الفلسطينية. هناك الأخطر وهو الوقائع التي لا تني إسرائيل تخلقها على الأرض وتنتج في كل سنة واقعاً جديداً يكرس أشياء كثيرة, لكن القاسم المكرس الأكبر، صار شبه استحالة قيام دولة فلسطينية حقيقية, متواصلة وذات سيادة. في السنوات العشر الماضية (وأكثر قليلاً) كانت كبرى تلك الوقائع الاستيطان المتواصل, ثم تلاه واقع جدار الفصل العنصري. بحسب تقديرات متطابقة تضاعف حجم الاستيطان وعدد المستوطنين في الضفة الغربية من لحظة توقيع اتفاق أوسلو عام 1993 وحتى الآن من مرتين إلى ثلاث مرات. حدث ذلك تحت عين "مشروع الحل السلمي" و"مشروع المقاومة" بما فيه ما كان قد تبقى من الانتفاضة الأولى وما انضاف إليه من انتفاضة ثانية. لم ينجح المشروعان, أو أي منهما على حدة, على إيقاف التوسع الاستيطاني الرهيب في الضفة الغربية (وحالها يختلف جذرياً عن قطاع غزة والاستيطان فيه والذي تفكك, وكان متصوراً على الدوام أنه سيتفكك بخلاف مستوطنات الضفة التي تعتبرها أيديولوجيا اليمين الصهيوني جزءاً لا ينفصل من أرض إسرائيل الكبرى). لم ينجح المشروعان أيضاً في وقف التهويد المتسارع للقدس, أرضاً, وسكاناً, وهوية, ومقدسات. تذوب القدس العربية، وتذوب عروبة القدس يوماً إثر يوم بفعل البرنامج الإسرائيلي المستديم بخلق وقائع جديدة على الأرض. ذات الأمر, وعدم النجاح, ينطبق على مسألة حق العودة ومصير اللاجئين الفلسطينيين وأولادهم وأحفادهم. إذ ربما جاز القول إن هذا الحق هو أكثر الحقوق تعرضاً للاستنزاف وأكثرها الآن استهدافاً. ولا نشهد أي اشتغال حقيقي, مسالم أو مقاوم, على جبهة هذا الحق فحسب. لكن ما يحدث على الأرض هو آلية تخليق أسباب طاردة للفلسطينيين في الداخل ليلحقوا بمن سبقهم في الخارج. وليست الإشارة هنا لسياسات وممارسات إسرائيل فحسب, فذلك مما هو متوقع ومرصود. لكن الأكثر مرارة, والأقل اعترافاً وإقراراً به, هو انعكاسات السياسات الفصائلية للفلسطينيين أنفسهم على خلق مناخ يؤدي إلى تكثيف وزيادة هجرة الفلسطينيين إلى خارج وطنهم. فهناك عشرات الألوف من الفلسطينيين الذين ضاقت بهم أرض الوطن حيث لا عمل ولا اقتصاد ولا كرامة يغادرون سنوياً وكثير منهم يتحول مع الوقت إلى مهاجر دائم (لاجئ طوعي). والأمر المقلق جداً في ديموغرافيا هذه الهجرة هو كون الشرائح الأكبر المشكلة لها هم الشباب والكفاءات والكوادر التي تنسل من قطاعات المجتمع المختلفة وتتركها حافلة بالثغرات. بعيداً عن ذلك كله, تنشغل "القيادات الفلسطينية" في بعضها بعضاً وعلى خلفية اتهامات بالتقصير المتبادل إزاء تطويق أنشطة العصابات في قطاع غزة, أكثر مما تنشغل بالمشروع الوطني والأهداف العليا والكبرى للشعب الفلسطيني. هناك انحدار في الرؤية العامة, وفي التفصيلات الاستراتيجية, وفي التكتيك, وفي الخطوات المرحلية. كل هذا الكلام الكبير صار وكأنه من الماضي, وحتى لو قيل، فإنه لا يعكس جوهر البرامج السياسية, فقد صار التنافس الحزبي على امتلاك سلطة بالكاد تملك شيئاً هو المحرك شبه الوحيد للتنظيمات وقادتها وأجنحتها العسكرية. الخراب الفصائلي الذي انتشر في الجسد الفلسطيني الوطني والمقاوم في السنوات الماضية أنهكه فعلاً. لا يتوقف "الفتحاويون" الغاضبون على "حماس", و"الحمساويون" الغاضبون على "فتح" عن الحديث عن بعضهم بعضاً بلغة التخوين والاستهزاء والإقصاء. كلاهما مستنزف وقته وجهده بمتابعة ومنافسة ومناكفة الآخر أكثر بما لا يقارن من استنزاف الوقت والجهد في الصراع مع المحتل الإسرائيلي. والقضايا الهامشية هي التي تحتل الآن رأس الأجندات اليومية. رئيس الوزراء منهمك في إطلاق سراح صحفي بريطاني, يمثل خطفه لطخة بشعة أخرى تضيفها عصابات غزة على وجه الفلسطينيين في الداخل والخارج. والرئيس الفلسطيني نفسه منهمك في انتزاع ساعات فتح إضافية لمعبر "كارني" كي تدخل الشاحنات الفلسطينية إلى قطاع غزة بالتموين وضرورات الحياة. ربما ليس من الإنصاف تحميل الفلسطينيين أكثر مما يحتملون من واقع الفشل والخطر الذي يحيق بالمشروع الوطني الفلسطيني برمته, وهم عموماً يتحملون الكثير في هذا السياق. لكن من الضروري التأكيد على أن الاختناقات التي يواجهها هذا المشروع في الوقت الراهن، تعود في مجملها إلى بنيويات إقليمية ودولية. فعلى هذين المستوين ليس ثمة ما يشير إلى أن المستقبل المنظور يحمل فرص تحولات إيجابية تخدم الفلسطينيين. وهذا يطرح السؤال الكبير: ما العمل, وإلى أين إذن؟ هذا السؤال هو الذي يجب أن يستنزف وقت وجهد حكومة الوحدة الوطنية, و"حماس", و"فتح", ومنظمة التحرير الفلسطينية. ويجب أن تطرح في الإجابة عليه كل الاحتمالات وكل السيناريوهات الممكنة. ولعل التأمل المهم الآن الذي يجب أن يحدث في ضوء حصار إسرائيل للحكومة, وحصار الولايات المتحدة, ونصف أوروبا لها, هو جدوى مسألة السلطة الفلسطينية برمتها. فتجربة السلطة وما لها وما عليها آن لها أن تفحص على ضوء إعادة برمجة المشروع الوطني الفلسطيني. لربما قال البعض إن في ذلك استحالة ولا يمكن العودة إلى الوراء. لكن من قال إنها عودة إلى الوراء؟ كما ليس هنا أي تسرع في إطلاق حكم بهذا الاتجاه أو ذاك. لكن صار من المشروع جداً طرح هذا السؤال وبحثه, خاصة وأن صورة وجود سلطة فلسطينية أدت إلى تخفيف غلظة الواقع الاحتلالي. فقد صار يترسخ وهم عند العالم بوجود كيان فلسطيني معادل لإسرائيل. ربما آن الأوان أن تُعاد المسألة إلى أبجديتها الأولى: احتلال ومحتلون وقانون دولي يُلزم المحتل بوظائفه عوض أن تقوم بها سلطة فاقدة السيادة ثم يتحكم بها المحتل ويهدد بالقضاء عليها, لأن أهلها صاروا يظنون أنها مآل مشروعهم الوطني.