كان الصيف الماضي حارا وطويلا، ثقيل الخطى في الضفة الغربية. كما كان صيفا مجدبا وجافا. ذاك هو حال جميع مواسم الصيف الفلسطينية في الغالب الأعم. وكثيرا ما عانى المواطنون ندرة في المحاصيل الغذائية ومياه الشرب. غير أن السنوات الأخيرة الماضية، كانت أشد عطشا وحرا وجفافا من سابقاتها، بسبب رزوح الفلسطينيين تحت نير عاملين، كلاهما أقسى من الآخر: جفاف الطبيعة وحرها، ونير الاحتلال الإسرائيلي لأراضيهم. فما من مورد مائي سطحي مستقر ومنتظم في المنطقة كلها، سوى نهر الأردن وبحيرة طبريا! يذكر أن حصص المياه كان قد تم توزيعها بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني، وفقا لاتفاقية 1996. وبموجب تلك الاتفاقية، فإنه لا يجوز للفلسطينيين المقيمين على مجرى نهر الأردن، الحصول على قطرة ماء واحدة منه.
وفيما عدا الينابيع التي تتناثر هنا وهناك في أنحاء شتى من الأراضي الفلسطينية، فإنه ليس ثمة مورد آخر، إلا المياه الجوفية التي تقع على مسافة قريبة من سطح الأرض، تحت أقدامهم مباشرة، فيما يعرف بالطبقات الصخرية المائية السطحية. وتمثل هذه الطبقات، موردا مائيا مهما بالنسبة لإسرائيل، إذ تمدها بحوالى أربعين في المئة من مياهها الجوفية سنويا. وفي قطاع غزة، فإن موارد المياه الجوفية هذه، تعد ضحلة نسبيا، ويسهل الوصول إليها وحفرها واستخراجها، غير أنها تعاني من مشكلات تلوث عال بمياه الصرف الصحي غير المعالجة، إضافة إلى تلوثها بالمياه البحرية.
في المقابل، فإن المياه الجوفية في الضفة الغربية، تتميز بأنها "حلوة" نسبيا، أي أنها من عينة جيدة. إلا أن مشكلتها أنها تقع في عمق يصل إلى 1500 قدم تحت سطح الأرض، مما يعني حاجتها إلى كمية كبيرة من الجهد والطاقة، حتى يمكن استخراجها وضخها. أما بالنسبة للطبقات الصخرية المائية الواقعة في الجانب الإسرائيلي، فيستفاد منها بنسبة مئة في المئة، أي أن كل قطرة منها تتحول إلى مياه صالحة للاستخدام والاستهلاك. في حين أن تلك الواقعة في الضفة الغربية يبقى نصيب الفلسطينيين من مواردها المائية هو 20 في المئة فقط، في حين يستأثر الإسرائيليون بنصيب الأسد منها، 120 في المئة بالتمام والكمال! وبالمقارنة عينها، فإن متوسط الاستهلاك السنوي للمواطن الإسرائيلي من المياه، هو 350 مترا مكعبا، وهو معدل يساوي أربعة أمثال ما يستهلكه المواطن الفلسطيني من المياه سنويا.
يجدر بالذكر أن الجزء الأعظم من هذه المياه، يستخدم في الأغراض والأعمال والمشروعات الزراعية. وفي حين يمثل القطاع الزراعي ما تتراوح نسبته بين 2 إلى 3 في المئة فحسب من إجمالي الناتج القومي الإسرائيلي، نجد أن مساهمة هذا القطاع الحيوي في إجمالي الناتج القومي الفلسطيني، هي ما بين 24 إلى 30 في المئة منه. ومما لا شك فيه أن هذا التوزيع غير العادل والجائر للمياه- بوصفها موردا اقتصاديا وحياتيا لا غنى عنه- يمثل بحد ذاته وقودا إضافيا في تأجيج نيران النزاع بين الجانبين المتناحرين. ولما كان جذر النزاع وأسّه، هو الأرض، فإن الماء يلعب دور مصدر إضافي له، ومساعد على تفاقمه. وفيما يبدو فإن "هيئة اللجنة الإسرائيلية- الفلسطينية المشتركة للمياه" التي أنشئت بموجب اتفاق أوسلو، تبدو خطوة على طريق التعاون بين الجانبين. غير أن تنازع وصراع القوى - وفق انعكاسه الواضح في تكوين اللجنة نفسها- يبين مدى ضعفها وعجزها عن القيام بدورها المفترض فيها. الصحيح والدقيق، أن نقول إنها ولدت ميتة منذ وقت سبق، اتفاق أوسلو نفسه.
وعلى الصعيد العملي، فقد تواصلت ممارسات الضخ غير المنظم للمياه، وتدمير موارد الصخور المائية السطحية. ولنا أن ننظر إلى فكرة الجدار الأمني الإسرائيلي الفاصل، لنرى إلى أي منقلب وصل سوء الأوضاع المائية والمعيشية في المنطقة. فبموجب هذا الجدار، يتم آليا إقصاء 50 من آبار ومصادر المياه الجوفية عن الاستخدام الفلسطيني. وهذا يعني بلغة الأرقام أيضا أن حوالى ثلث المصادر المائية التي كانت متاحة أمام الفلسطينيين- حتى وقت قريب من فكرة، ومن ثم إنشاء الجدار العازل- قد تحولت تلقائيا إلى سلطة وقبضة الإسرائيليين. أما نتيجة كل هذا، فنلمسها مباشرة في ردود فعل الفلاحين الفلسطينيين الذين يخسرون زرعهم جراء نقص المياه، وكذلك لدى كل المهتمين بآفاق ومصير حل الدولة الفلسطينية.
ومما يزيد الأوضاع سوءا على سوء، الإصرار والتشبث باستمرار المستوطنات الإسرائيلية، وهو أمر باهظ التكلفة، ومثير لسخرية التيار الرئيسي من الجمهور الإسرائيلي نفسه. إلا أن الحقيقة الماثلة هي استمرار إنشاء المستوطنات، وحفر الآبار المائية اللازمة لبقائها. نتيجة لذلك، لا يمر صيف واحد دون أن تجد صهاريج المياه الفلسطينية الخاصة طريقها إلى تلك الآبار، أملا في حمل المياه إلى القرى الفلسطينية النائية المعزولة والمحرومة من أية حصة مائية. أما المستوطنون الإسرائيليون الذين يدفعون لسائقي وأصحاب هذه الصهاريج، فإنهم يواجهون بإغراء مالي كبير، يصعب عليهم رفضه، لكونه يصل إلى حوالى خمسة عشر ضِعفا للسعر