في عصور التاريخ القديمة كان التخصص العلمي والعملي غير مطلوب، وذلك لسبب بسيط هو قلة المتخصصين والخبراء من جانب، وعدم اكتشاف كل خبايا العلوم ونظرياتها لصعوبة الاتصال بين الحضارات من جانب آخر، فكان المجتهدون في المجتمعات العربية والأجنبية يجمَعون بين تخصصات عدة، فكانوا مثل الــ"سوبرمان". فعلى سبيل المثال نجد أن ابن رشد الفيلسوف الإسلامي الشهير، كان عالم رياضيات، وخبيراً في الفيزياء، والمفسر العلمي للنظريات، أي أنه كان "بتاع كله"، وهو أمر كان مقبولاً حينها، بل وربما يكون مطلوباً، فقد كانت الحياة بسيطة والناس منشغلة بالأرزاق، ومن يعرف شيئاً ولو محدوداً يكون نابغة زمانه. لذا كان لـ"السوبرمان" مزايا عدة، من أهمها: * وجود تكامل وتداخل بين العلوم المختلفة، خاصة في ظل بساطة العلوم المتداولة، وقلة النظريات العلمية المتعارف عليها، وندرة الاكتشافات والاختراعات. * تعويض قلة العلماء والمتعلمين، وندرة المجتهدين في مجالات العلوم المختلفة، خاصة في ظل انتشار الأمية، وعدم كفاية المدارس والمعاهد والجامعات، وانكفاء الناس على مطالب الحياة اليومية. * التغلب على عدم معرفة اللغات المختلفة للاطلاع على تقدم الحضارات الأخرى، فكان للمجتهدين الــ"سوبرمان" الفضل في التعرف على ما قدمته هذه الحضارات لصالح المجتمع الدولي. * وضع حلول محلية لمشكلات المجتمع، في ظل صعوبة السفر والتنقل للحصول على ما تصدره المطابع العالمية في أنحاء العالم. * إيجاد نوع من المعارف يتماشى مع ظروف العصر وعلومه، ويستفاد منه في التعليم وتنمية الإدراك. * التغلب على ضعف التواصل بين العلماء، فقد كانت هناك صعوبات جمة في الاتصال، ومن ثم لم يستطع كل عالم أن يلمَّ بما سبقه من جهود في مجاله، ويبدأ من حيث انتهى الآخرون. لذلك استمر عصر الــ"سوبرمان" (بتاع كله) لمدة طويلة، فكان الفقيه نهاراً يعمل جرّاحاً ليلاً، والفيلسوف خلال المساء نجده صيدلياً عند بزوغ الفجر، وعالم الرياضيات في الصباح يعطي دروساً في الثقافة في فترة الظهيرة، والشاعر المرهف في ليالي الأنس والبهجة هو القائد المقدام وحكيم الزمان في مجالس الأمراء، والمقاتل الذي يعمل على إزهاق الأرواح يعمل طبيباً في أوقات فراغه. وبلغ كثير من الــ"سوبرمان" مراتب عالية، وتقلدوا كثيراً من الوظائف العليا في الدولة، وقربهم السلاطين والحكام من مجالسهم، لأنهم يعلمون كل شيء، ويفهمون ما لا يفهمه غيرهم. ولكن في التاريخ الحديث والمعاصر، وبعد أن بلغ الإنسان أعلى مراتب التفكير العلمي واكتشاف الجديد كل يوم في العلوم، بات التخصص مهماً، بل أصبح لكل تخصص عناصر فرعية تحتاج لتخصص أدق، واختفى الــ"سوبرمان" (بتاع كله)، وهذا الأمر كانت له مميزات كثيرة من أبرزها: * نجاح العلماء في كشف كثير من النظريات العلمية والعملية، التي قادت إلى اختراعات كان يصعب وربما يستحيل على الإنسان التوصل إليها. * معرفة توصيف كثير من الأمراض المستعصية؛ ومن ثم وضع العلاج الناجع لها، بعد أن ساد اليأس كثيراً من المرضى. * اختراق الفضاء والوصول إلى القمر. * أصبح العالم قرية صغيرة نتيجة لتكامل ثورات عدة، واختفت الحواجز، وأصبح العلم متاحاً للجميع، ويمكن لكل عالم أن يبدأ من حيث انتهى الآخرون فيتم تعميق النظريات، والإسهام في الحضارة الإنسانية باختراعات جديدة كل يوم. * انتشار التخصصات المختلفة مما يتيح حل المشكلات والتغلب على المصاعب التي تظهر نتيجة للتعمق الكبير في مجال التخصص. لذلك جاء القرن الحادي والعشرون ليدعم التخصص في كل شيء، ولتكون جائزة نوبل هي التأكد على التفرد في التخصص واختراق آفاق جديدة من العلم، وأصبح من الصعب ملاحقة الاختراعات التي تفاجئ العالم بصورة يومية. ففي عالم غابت فيه الحدود الإقليمية بين الدول بحكم السيادة التكنولوجية، وانتشار الإبداعات والابتكارات التكنولوجية في كل أنحاء العالم، وازدادت القدرة علىَ مقاومة الأمراض والشفاء منها، واستطاعت التقنية الحيوية والجينية إنتاج الغذاء الرخيص، وحل بعض المشكلات البيئية. وأتاحت تقنيات الهندسة الوراثية الفرصة لأن ينجب الشخص بعد عشرات السنوات من مماته، فضلاً عن تطور بحوث استنساخ البشر. كما أثبتت الثورات العلمية الكبرى على مدى التاريخ أنها وراء القفزات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي حققتها الإنسانية، وأن الذي يملك سلاح العلم هو الذي يكسب سلاح الاقتصاد، وأن الذي يكسب سلاح الاقتصاد هو الذي سيرفع سيف السياسة وحرية الحركة. لذلك واجه العالم طفرة هائلة في الاقتصاد المعرفي، وبدأت تظهر حضارة "المعرفة"، وبات العالم يشهد ثورات علمية على نحو غير مسبوق نتيجة انصهار علوم عدة لدراسة ما يعرف بعلم المعقدات "Complexity"، ولم يعد هناك مكان للمتقاعسين أو الناقلين، فأصبح البقاء للأعلم والأقدر والمبدع، وهو عادةً المُتخصص. لذلك أصبح الــ"سوبرمان" (بتاع كله) من مخلفات التاريخ، ومكانه المتاحف الطبيعية على تنوِّعها، إلا أن العالم العربي لا يزال يعجُّ بهؤلاء الــ"سوبرمان"، الذين يعرفون كل شيء، ويفهمون كل مسألة، والخبراء في كل الأنشطة، فاختلط الحابل بالنابل كما يقولون، وسقط العرب في براثن التخلف والأمية الرقمية. فهؤلاء نذروا أنفسهم لثقافة "الجهل المُركّب"، ويتهمون الآخرين بذلك، لأن غرورهم غطى على جهلهم، وغباءهم أعماهم عن الاعتراف بمحدودية قدراتهم، وتقاعسهم عن إدراك التطور العالمي وأهمية التخصص دفعهم للنقد من أجل النقد، وهذه الآفة التي انتشرت في مجتمعنا العربي جعلتنا نتخبط في السياسات والاستراتيجيات، وبدلاً من أن نبدأ من حيث انتهى الآخرون، رحنا نبحث عن بداية تعود بنا إلى نقطة الصفر أيام العصر الحجري. فالضابط أصبح فيلسوفاً، وله نظريات في علوم الفيزياء، وآراء في الدين، ويتصدى للفتوى بدلاً من أن يركز جُلَّ جهده على دراسة الظواهر الأمنية وطرح استراتيجيات مواجهتها، والطبيب يصف الدواء لعلاج التضخم الاقتصادي والغلاء وتدني مستوى المعيشة، ولا يأبه بعدد المرضى الذين يعالجهم خطأ نتيجة ضعف تخصصه وقلة خبرته. والمسؤول عن العلم والتعليم تفرغ للنقد والمزايدة وإجراء التجارب على التلاميذ، وبات يفتي في كل شيء من الإبرة إلى الصاروخ، مروراً بأنواع الطبيخ والمأكولات، لإثبات أنه يقوم بعمله، ويفتقد أبسط أسس فهم التعليم ونظرياته، وأنه الأساس لبناء الحاضر والمستقبل وصياغة القيم وغرس المبادئ الإنسانية. وهؤلاء هم نتاج مجتمع يتكلم أكثر مما يعمل، وينقد ولا يفكر، ويستهلك ولا ينتج، فكان طريق "الفهلوة" و"بتاع كله" الضمان الوحيد للكسب المادي والبقاء على قيد الحياة في عالم لا يعترف بالتخصص. فإذا كان العالم العربي جاداً في طريقه نحو تطوير التعليم والاهتمام بالبحث العلمي كطريق وحيد للمستقبل، فعليه أن يتخلص وفي أسرع وقت من المدعين "بتوع كله"، فقد انتهى عصر الـ"سوبرمان"، وإلا فإن البديل مزيد من التخلف والسقوط في براثن "الفهلوة" وضياع ما تم إنجازه.