مسؤولية الفلسطينيين عن الحرائق التي وقعت في قطاع غزة, وربما تؤذن بالوقوع في الضفة الغربية, هي المسؤولية الأكبر. هذا التقديم الافتتاحي مهم هذا حتى لا تُفهم الأسطر التالية على أنها إحالة للمسؤولية على الأطراف الخارجية فحسب. لكن ما يمكن أن يزيد من تسعير تلك الحرائق هو تبلور موقف دولي وعربي متوتر ينسج على منوال الغباء والنفاق الذي رأيناه منذ نتائج الانتخابات الفلسطينية في يناير 2006. المواقف الدولية والغربية ساهمت بشكل كبير في دفع الأمور الداخلية الفلسطينية إلى ما وصلت إليه, بغض النظر عن الأداء المُخجل للأطراف الفلسطينية. السجن الكبير الذي فُرض على الفلسطينيين ومحاصرتهم وتقطيع سبل عيشهم اليومي وتعميق الإحباط واليأس والغضب هي العوامل التي تنتج بيئة بالغة العنف, ليس على الصعيد السياسي فحسب، بل والفردي والعائلي أيضاً. لو حُبس عاشقان, ناهيك عن متنافسَين, في قفص "غزَّاوي" ضيق ولفترات طويلة وتحت حصار مطبق فإنهما سينتهيان إلى عدوين متناحرين! ماذا كان يُنتظر كنتيجة طبيعية لتنمية عوامل خلاقة لكل أنواع العنف والإقصاء خلال فترة قياسية هي فترة فوز "حماس" بالانتخابات: أي سنة ونصف تقريباً. وحتى نضع الأمور في سياقها التاريخي والتطوري في تلك الفترة لنتأمل ما يلي: عبر المشاركة في الانتخابات التشريعية التي جرت في العام الماضي حاول كل طرف فلسطيني أن يخرج من المأزق الذي حشرته فيه السنوات السابقة على تلك الانتخابات, وكل ذلك بالطبع تحت وفي ظل تواصل السياسات الاحتلالية الإسرائيلية وتعميق برامجها الاستيطانية والتوسعية (والجدارية أيضاً). من خلال المشاركة في الانتخابات أملت حركة "فتح", وكانت قد وصلت إلى طريق مسدود مع مشروع "أوسلو" والتسوية الذي قادته لأكثر من ثلاثة عشر عاماً, اكتساب هيبة سياسية وشرعية شعبية جديدة. كان الفساد الذي ألقى بثقله على مشروع السلطة الفلسطينية قد دمر شعبية وشرعية "فتح" على وجه التحديد. "حماس" من جهتها شاركت في الانتخابات لأنها واجهت مأزقاً حقيقياً تعلق بأفق برنامجها المقاومي, فالعمليات الانتحارية توقفت أو أوقفت بعد أن جلبت مضار استراتيجية على "حماس" وعلى القضية. لم تستطع "حماس" أن تقنع الفلسطينيين بأن القوة العسكرية والسياسية التي أصبحت تمتلكها, لكن الفاقدة لبرنامج سياسي مرحلي وواضح, تسمح لها بالبقاء في موقع التمتع بترف المعارضة وعدم تحمل المسؤولية. إضافة إلى ذلك بدا واضحاً لـ"حماس" أن قوتها العسكرية المتصاعدة, ونفوذ جناحها العسكري المتزايد, يدفعان باتجاه البحث عن وسائل لخلق شرعية سياسية قانونية يتم من خلالها ضمان عدم المساس بتلك القوة العسكرية، خاصة وأنها تنمو بالتوازي مع وجود قوى أمنية وعسكرية تابعة للسلطة الفلسطينية. عملياً, إذن, كانت الانتخابات التشريعية لعام 2006 عاملاً مسكناً لمأزق أعمق من أن يتم علاجها بالمسكِّنات. كانت هروباً بالأزمات إلى الأمام, لكن محاولة تغليب الأمل والتمنيات هي ما دفع بالشعور العام إلى التغافل عن الجوهر المقلق والمآزق المستعصية التي أخفتها الانتخابات وفي ظل مشاعر غبطة الفلسطينيين بالنجاح في التجربة الديمقراطية بشكل عام. لكن ما فاقم من تلك المآزق جميعها هو فوز "حماس" بالانتخابات. فهنا لم تتوقف الأمور عند شبه الجمود التام الذي كان يشل كل المسارات: مسار التسوية ومسار المقاومة, وفي ظل سياسة إسرائيلية نشطة في قضم الأرض الفلسطينية وخلق واقع عنصري جديد عبر الجدار. مع فوز "حماس" وترسيخ الانشطار الرأسي في الساحة الفلسطينية اصطف الموقف الدولي والعربي إلى جانب مؤسسة الرئاسة وحركة "فتح", وضرب حصاراً كبيراً على "حكومة حماس" على رغم فوزها بالانتخابات بشكل ديمقراطي وحُر. والمشكلة هنا هي أن هذا الموقف أضر بـ"فتح" وبالرئيس الفلسطيني من حيث أراد أن يساعدهما. فقد بدا لشرائح عريضة من الفلسطينيين أن موقف "فتح" لا يتمايز عن موقف إسرائيل والولايات المتحدة القاضي بالعمل بكل الجهود الممكنة لإسقاط حكومة "حماس". وبدلاً من العمل على إعادة تأهيل نفسها وإصلاح الاختلالات التي أدت بها إلى خسارة الانتخابات وصوغ موقف متمايز عن الموقف الدولي, ظلت "فتح" ما بعد الانتخابات هي "فتح" ما قبل الانتخابات. لكن أبعد من ذلك وأخطر منه هو أن تكرس "شرعيتين فلسطينيتين" الرئاسة والحكومة وكلتاهما منتخبتان من الشعب الفلسطيني، تم على أرضية تدخل دولي, وخاصة أميركي, مدمر في الساحة الفلسطينية. وعلى الجانب الآخر كان الدعم الإيراني المالي والدبلوماسي لـ"حماس" قد أدخل الفلسطينيين متاهة إضافية, حيث أعيدت القضية الفلسطينية إلى مربع التوظيف في السياسات الإقليمية ولخدمة أهداف خاصة بهذه الدولة أو تلك. لكن الشيء العملي الذي سرَّع في عملية الصراع الدامي في غزة تمثل على ما يبدو في تواصل الدعم العسكري والمعلن لأجهزة الأمن المسيطر عليها من قبل "فتح" ومؤسسة الرئاسة في قطاع غزة بهدف تقويتها إلى درجة تتمكن فيها من هزيمة قوات "حماس" إن دعت الحاجة. وكان ذلك يتم تحت نظر وسمع "حماس" وخاصة جهازها العسكري الذي بدت له الأمور كما لو كان يراقب لحظة الإعداد للتخلص منه والإجهاز عليه. وهنا وفي تلك اللحظة التي يبدو فيها أن جناح "حماس" العسكري قدر أن خصومه يتسلحون ليوم قادم قرر تسلم زمام القرار الحمساوي برضا أو بدون رضا القيادة السياسية وخوض "حرب وقائية"! أسبوع تلك الحرب جذورها تمتد إذن إلى سنة ونصف، وذلك هو السياق العام الذي من دونه لا يمكن فهم ما حدث واستيعاب حدته وبطشه العنيف. وإن أردنا الدقة أيضاً فإن تلك الجذور والعنف المختزن والأحقاد المتراكمة تعود إلى سنة 1996 عندما استهدف جهاز الأمن الوقائي الجناح العسكري لحركة "حماس" واستخدم أساليب ضد عناصر وقيادات من "حماس" لم تكن معهودة إلا في أنظمة الاستبداد العربي واستنكرتها آنذاك قيادات فلسطينية وفتحاوية عديدة. والآن وبعد جولة الصراع الدامي المخجلة في قطاع غزة وانتهاء الوضع إلى سيطرة "حمساوية" في غزة مقابل سيطرة "فتحاوية" في الضفة الغربية، فإن خطر الشرخ الرأسي في الشرعية الفلسطينية امتد ليهدد وحدة المصير الفلسطيني والجغرافيا الفلسطينية والأهداف الفلسطينية الموحدة. ومعظم السيناريوهات, إن لم نقل كلها, مظلمة وكئيبة. ويحتاج الوضع إلى دقة شديدة في التعامل خاصة من قبل الأطراف الدولية والعربية المؤثرة. وربما يكون تدخل هذه الأطراف وخاصة الولايات المتحدة بمثابة قبلة الموت لطرف من الفلسطينيين. كما أنه دعوة كريهة لتكريس الانقسام الفلسطيني ونبذ نصف الفلسطينيين. كل حل دولي أو عربي يحاول أن يتجاوز روح "اتفاق مكة", أو على الأقل تجاوز الإتيان باتفاق جماعي ووطني مهما كان هشاً، فإنه سوف يزيد من الحرائق الفلسطينية. التراكض الدولي والعربي لتأييد حكومة الطوارئ (في الضفة الغربية) ودعمها بالمال والمساعدات وعدم التعامل مع "الحكومة المُقالة" (في قطاع غزة) وبغض النظر عن الموقف من "حماس" يعني تكريس الانفصال. وحدة ما تبقى من الأرض الفلسطينية أهم من "فتح" وأهم من "حماس" مجتمعتين. وتاريخياً تبدأ الانفصالات على خلفية صراعات سخيفة وأحياناً صبيانية, لكن على أرضية تدخلات دولية كبرى (الكوريتان, فيتنام, الألمانيتان... البلقان). لكن لملمة الانفصال ومداواته تزدادان صعوبة سنة بعد سنة, وهنا علينا أن نقول إن سيناريو انفصال الضفة الغربية عن قطاع غزة لسنوات طويلة قادمة ليس بالسيناريو الخيالي ولا الجامح في التوقعات. إن غابت العقلانية يصير اللامفكَّر فيه هو الواقع الوحيد.