علامات كثيرة تتوالى لغضب ورفض عدد كبير من الحكومات العربية لما اقترفته حركة "حماس" من حماقة بإشعال الحرب الأهلية الفلسطينية. وأعلنت مصر ودول عربية أخرى بالفعل اعترافها بحكومة الطوارىء التي شكلها الرئيس محمود عباس فيما يعني تحيزاً واضحاً للرئيس وحركته. ويبدو أن نيه عدد من الحكومات العربية يتجه لعزل حركة "حماس" بعد تمكنها من السيطرة الانفرادية في غزة. الغضب مبرر إلى حد بعيد. ومن حق الحكومة المصرية بالذات أن تشعر بالغدر والإهانة فيما فعلته "حماس". ويشارك أغلبية المصريين حكومتهم في هذه المشاعر. إذ يمكن فهم ما حدث وكأن "حماس" استخدمت جلسات الحوار المصري- الفلسطيني والحوار الذي كان مخططاً إجراؤه في القاهرة بين الفصائل، كستار للتغطية على نيتها في شن الحرب ضد "فتح" في غزة, وهو أمر غير مقبول إطلاقاً. ويشعر غالبية المصريين بأن من حق بلادهم أن تسأل، وأن تحاسب حركة "حماس" على هذه الخديعة، التي تمثل استهانة بثقل مصر الكبير بل طعنة في كرامتها الوطنية. وربما لا يقل شعور المملكة العربية السعودية بالإهانة والغضب تجاه "حماس" عما تشعر به مصر مع فارق في تقنيات التعبير عن المدرسة الدبلوماسية السعودية المعروفة بالطابع المحافظ. فتصرف "حماس" في غزة، هو انقلاب على الجهد الدبلوماسي السعودي الهائل، والذي أسفر عن اتفاق مكة بين الفصيلين الرئيسيين في الحركة الوطنية الفلسطينية. وكان تقدير المراقبين أن "حماس" حققت مكاسب كبيرة في هذا الاتفاق على حساب "فتح"، وأنها تلقت فوق ذلك دعماً كبيراً من جانب المملكة تشجيعاً لها على توقيع اتفاق ضمن لها تفوقاً سياسياً واضحاً. وسيكون شعور السعودية بأنها خُدعت، وبأن مكانتها العربية جُرحت مبَرَراً تماماً، وخاصة بعد أن قامت بجهود كبيرة في إبرام اتفاق ضربت به "حماس" عرض الحائط. ومع ذلك كله، ليس من الحكمة إطلاقاً أن تنجرف الدول العربية الرئيسية بما فيها مصر والسعودية وراء الانفعال اللحظي، فتنسى علاج التداعيات الخطيرة، التي قد تترتب على عقابها لـ"حماس" أو نيتها في عزلها. تجبرنا التداعيات الخطيرة، التي بدأت تتوالى بالفعل لأحداث غزة المؤسفة على التعاطي بمرونة مع "حماس" حتى لا تحرم الدول العربية- وعلى رأسها مصر- نفسها من الأخذ بالاختيارات المناسبة لصالح الشعب الفلسطيني، الذي يُعد الضحية الأساسية للأعمال غير المسؤولة من جانب "فتح" و"حماس" معاً. أحد هذه التداعيات بالذات، يحتاج إلى كثير من الصبر والتدبر، وهو عزل غزة فعلياً عن العالم. مصر هي البوابة الوحيدة لغزة على العالم من اليابسة. فإذا أغلقت هذه البوابة ستكون النتيجة أقرب إلى وضع سكان غزة في صندوق مغلق، وإلحاق العقاب بهم على ما لم يفعلوه. كما أن الجسور السياسية بين غزة والضفة تتعرض للتصدع بالفعل وخاصة بعد أن أصبح لدينا حكومتان فلسطينيتان واحدة تسيطر فعلياً على غزة والأخرى تسيطر فعلياً حتى الآن على الأقل على الضفة الغربية. أقل المخاطر التي تتداعى من هذه الحقيقة هي أن يعتبر الأميركيون والإسرائيليون أن غزة صارت هي "الدولة الفلسطينية" التي صدر قرار من مجلس الأمن بتأسيسها ويسعون بذلك لابتلاع الضفة أو تصفية القضية الفلسطينية عموماً. ولن يتم ذلك بالطبع في خطوة واحدة. بل من المتوقع أن يبدؤوا في إشعال الحرب الأهلية في الضفة بدورها. ومسارعة أميركا وإسرائيل بالاعتراف بحكومة الطوارىء التي شكلها الرئيس "أبومازن" تبدو خطوة على طريق مد الحرب الأهلية للضفة. فمن المحتمل للغاية أن يذهب رد الفعل بالرئيس وبالقوى المتنفذة في حركة "فتح" إلى حسم مواقفها من التسوية بل وبالتحالف مع الولايات المتحدة على حساب الاجماع الوطني. وعندئذ يبدو من المحتم أن تسعى "حماس" لتخوين سلطة "فتح" في الضفة والانقلاب على شرعيتها بل والبحث في الإطاحة بها عن طريق النضال المسلح, فإذا الحرب تمتد بالفعل إلى الضفة! وفي هذه الحالة سيدفع الشعب الفلسطيني تكلفة باهظة في الحرب الأهلية، دون أن يحصل على شيء من حقوقه التاريخية. وينقلب الفلسطينيون من النضال ضد الاحتلال من أجل الحقوق السليبة إلى النضال من أجل السلطة في "كانتونات" وضد بعضهم البعض! وفوق ذلك قد تشجع هذه التطورات إسرائيل وأميركا على البحث عن انتصارات إضافية سريعة أو طويلة المدى في الصراعات المشتعلة في المنطقة أيضاً وبالذات في لبنان والعراق. ومن هنا قد تمتد معاناة شعوب المنطقة وتزداد صراعاتها مرارة وتدميراً حتى تصبح منطقة الهلال الخصيب كلها هشيماً. لهذه الأسباب كانت حسابات "حماس" خاطئة، ويجب أن تُساءل على ما اقترفته من أخطاء. ولكن يجب ألا تنصرف ردود الفعل العربية وخاصة المصرية والسعودية إلى مساءلة "حماس" على حساب الحاجة للنظرة الكلية لمجمل التطورات المحتملة للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، بل وللصراعات الدائرة في كل منطقة الهلال الخصيب أو في المشرق العربي كله. وتفرض الحكمة ضرورة تعديل الموقف وتصحيحه على وجه السرعة من خلال الجمع بين المساءلة والاشتباك المرن مع حركة "حماس" أو مع مجمل الساحة الفلسطينية. وقد علمت أن هذا بالفعل هو ما تتجه له السياسة المصرية. فهي لن تستمر طويلاً في إغلاق الحدود مع غزة، بل ستسارع بفتح هذه الحدود وإن بحسابات دقيقة. ثم أنها– كما فهمت من مصادر مصرية مطلعة- سوف تتجه لاستئناف عملية الحوار الفلسطيني الفلسطيني، ما أن تشعر بأن ثمة إرادة كافية لدى الفرقاء الفلسطينيين لمراجعة مواقفهم خشية من وقوع تدهور خطير في الوضع الفلسطيني كله وخاصة مقابل إسرائيل. ويمكن للدبلوماسية السعودية أن تساعد كثيراً في دعم سياسة الاشتباك المرن دون أن تنسى في الوقت نفسه ضرورة مساءلة "حماس" سواء فيما يتعلق بحماقة التورط في حرب أهلية فلسطينية في هذا التوقيت، أو فيما يتعلق بالإهانة التي لحقت بهيبة المملكة العربية السعودية. يمكن الجمع بين هذه الاعتبارات من خلال تقوية الكتلة الثالثة في الأرض المحتلة. فيجب أن يكون واضحاً للدول العربية الرئيسية أن حصر السياسة الفلسطينية في ثنائية "فتح-حماس" كان خطأ كبيراً وأنه يشجع "حماس" على التطرف وعلى طلب احتكار السلطة. أما التحيز لـ"فتح" فسوف يكون خطأً كبيراً بدوره، لأنه سيكون نوعاً من فرض حركة غارقة في مشكلاتها الداخلية وسادرة في الأخطاء السياسية على شعب لم يعد يقبل بما تقوم به كوادر متنفذه فيها من جرائم وأخطاء بما يهدد شعبيتها داخلياً وسمعتها التاريخية بالانهيار التام. لا يبدو ثمة أمل من دون إدخال القوى التي دعت لتشكيل "الاختيار الثالث" أو الكتلة الثالثة باعتبارها فاعلاً رئيسياً سواء من أجل استرداد التنوع والتوازن في البنية السياسية الفلسطينية أو كوسيلة للضغط من أجل اصلاحات حقيقية في "فتح" واعتدال حقيقي في "حماس". آن الآوان لقيام الدول العربية الرئيسية بدفع حركة الإصلاح الجذري في السياسة الفلسطينية، لأنه من دونها ستكون القضية الفلسطينية قد ضاعت لسنوات مقبلة، وستكون المنطقة كلها قد دفعت ثمناً باهظاً، وستكون إسرائيل قد انتصرت فعلياً.