الجرَّاح يدخل قاعة العمليات متنكِّراً، لا يُرى منه إلا الأحداق، وخلال لحظات يدخل حفلة تنكرية؛ فيغير مهنته بين نجَّار وحدَّاد وخياط وحلاق. بين نجار يقطع بالمنشار ساقاً ميتة بالغانغرين، أو حداد في جراحة العظام، قد حمل المطرقة والصفائح والبراغي والمسامير، يعلو جبينه العرق، وفي يده تئزُّ ماكينة ثقب العظام أزاً. أو في شكل خياط في فن جراحة الأوعية الدموية، تعمل إبرته برشاقة، مثل رسام لوحة، في رتق جدر الشرايين الممزقة، وتصغير جيوب أمهات الدم، وترقيع أمكنة التضيُّق. أو على شكل حلاق يزيِّن الجلد، كما يفعل جراح التجميل؛ فيغطي الصلع، ويمحو آثار الحروق، ويرتق شفة، ويغلق قبة حنك مفتوحة. أو على شكل سبّاك يحرر الطرق من حصاة حالب، وحجر مثانة، وتضيق إحليل، وضخامة بروستات تحبس البول؟ ويعتمد الجراح في عمليته على أدوات شتى، من المِشرط والملقط والخيط والإبرة والمخثر الكهربي ومجفف السوائل، كما يعتمد النجار على المطرقة والمنشار والمسمار، وكما يحل الميكانيكي مشاكله فيدخل إلى بطن السيارة، بمفك البراغي، وعمود الميزان، ونافخ الإطارات. وفي عمليات فتح (بطن التاريخ) وتفكيك إحداثيات (التراث) يجب على المرء أن يفعل نفس الشيء، كي يحرر الوعي، فيصبح عقلانياً منهجياً؛ فلا يتحدث كالسَّحرة والمجانين. وهذا يعني أننا نحتاج إلى أدوات نوعية تعرف بالعلوم المساعدة. وإذا أردنا تنزيل هذه الكلمات على الواقع سنرى رؤية مدهشة؛ فالساحر يدمدم بألفاظ ليس لها تفسير إلا عنده، والمجنون يتحدث بنفس لغتنا بانفكاك كامل عن الواقع. وعندما يقول المجنون: تغديت البارحة في المريخ؟ يعتبر قوله صحيحاً إذا تم تفكيكه وفهمه على جزءين: أنه أكل، وأن هناك كوكباً اسمه المريخ. ولكن جرت العادة أن المآدب لا تقام خارج الأرض؛ فخرق العادة وانفكك عن الواقع؛ فهذا هو الجنون: الانفكاك عن الواقع، والتصريح بذلك، كما يقول عالم الاجتماع العراقي علي الوردي. ولا غرابة أن اتُّهم العباقرة والأنبياء بالجنون؛ فكان لابد من شحنهم روحياً، كي يصمدوا أمام هذه التهمة، ومعدن النبوة شيء مختلف، وهو في التبشير بواقع جديد كأنه ينفك عن الواقع. وكذلك الحال في فهم التاريخ، وعلم الإنسان، ودينامية المجتمع. والأدوات المعرفية لتشريح التاريخ متنوعة: من علم "الفيلولوجيا" لفك أسرار اللغات المغيَّبة كما فعل شامبليون وهنري لايارد في فك الهيروغليفية والفارسية القديمة، واستحضار علم الأنثروبولوجيا (علم الإنسان(، والإصغاء إلى همس قوانين التاريخ، واستنطاق علم الآثار، وغريزة اللغة في علم (اللسانيات)، واستخدام تقنية "بصمة الجينات"، وفهم عمل البيولوجيا والفيزيولوجيا والبرمجة العصبية اللغوية، وديناميكية السيكولوجيا، ونظم علم الاجتماع، ونبض سنن الحضارة. ولا يمكن الدخول إلى (بطن) أي علم بدون الاستعانة بحزمة من العلوم المساعدة، كما يفعل الميكانيكي والنجار والجراح؛ فهذه هي أدوات جراحة وتشريح هذا الحقل. وبالتالي فلا يمكن فتح جمجمة مريض اليوم بأدوات فرعونية، ولا يمكن التداخل على "أم دم- انو رزم" ANEURYSM بأدوات الطبيب الرازي الجراحية، ولا يمكن فهم القرآن بعقلية الطبري والحصفكي وابن سيرين، أو أناس تحددت إحداثيات الرؤية لديهم من القرن العاشر الميلادي، كما ولا يمكن سبر قاع المحيط بغطاسين يعتمدون كتم الأنفاس لمدة ثلاث دقائق. وتشخيص المرض، والتداخل الجراحي على الجسم، يتم اليوم باستخدام تقنيات شتى، واعتماد "ضفيرة" معقدة من التقنيات، لفك ألغاز المرض، وإماطة اللثام عن سيره المضطرب. مثل السكانر والمرنان المغناطيسي والسونار والمجهر الإلكتروني. ولو بعث ابن كثير وابن تيمية وابن القيم والترمذي والإسفراييني، لكتبوا الجديد، وأضافوا المثير، واعترفوا بالكثير من الخطأ؛ فهم غير معصومين، وليسوا فوق النقد، أو دون الخطأ. ولا يخرج الإنسان عن إحداثيات العصر وارتكاساته الفكرية. وآية هاروت وماروت جذبت عقل ابن كثير في عشر صفحات من الشرح، أما مؤلف آخر فقد شرح مفاتيح الغيب فربطها بميكانيكا الكم. وآية يوسف (اجعلني على خزائن الأرض) شرح في صفحات علاقتها بالديمقراطية الفعلية، ولماذا في المجتمع الإسلامي لا تُطلب الولاية ومن طلبها حرمها؟ والعقل الإسلامي اليوم ليس عنده من أدوات جراحة التاريخ، إلا ما كان سائداً أيام المماليك البرجية في عصر قانصوه الغوري.