في الأزمة اللبنانية، كما في الأزمة الفلسطينية، أعلن "النظام العربي" عبر الجامعة العربية تأييده ودعمه لـ "الشرعية". وهو الموقف الذي تتخذه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة. مع ذلك فإن هذه المرجعيات الأربع- ويصعب إيجاد ما هو أرفع منها- لا تبدو مجدية في حسم الأمور لمصلحة هذه "الشرعية" هنا أو هناك، لأن المتمردين عليها، دفعوا التحدي إلى حافة الهاوية: فإما أن ينتزعوا مكاسبهم وإما حرب أهلية مفتوحة، وقد تكون حرباً عسكرية على غرار ما حصل في غزة، أو حرباً سياسية كما في لبنان، مع احتمال أن تنفجر الأزمة عسكرياً في أي وقت. من العراق إلى فلسطين ولبنان، ولا ننسى السودان (في دارفور حصرياً) والصومال، تكاد تكون الأوضاع متشابهة في صراعها حول "شرعية الشرعية" و"شرعية التمرد". وبمقدار ما أن للصراعات هذه دوافعها وأسبابها الدولية والإقليمية، إلا أننا نجدها تدور أيضاً من بيت إلى بيت ومن شارع إلى شارع، ولا تخلو من تنافر بين الأشخاص والأمزجة، مما يضفي عليها مزيداً من التعقيد. وعلى رغم أن هذه الأزمات عربية، بحكم أنها مشتعلة في بلدان عربية، ولأسباب تبدو محلية، فإن معالجاتها تستعصي على أي مرجعية عربية سواء كانت حكومية رسمية كالجامعة أو اعتبارية أخوية كالوساطات التي تقوم بها دول ذات وزن وهيبة. فعبثاً تحاول هذه الدولة أو تلك التوفيق بين هذا الفريق أو ذاك، طالما أن مرجعيته الخارجية تحظر عليه قبول أي مسعى سلمي لا يناسبها مضموناً أو توقيتاً أو مؤدى. مع الوساطة العربية في لبنان، أمكن التأكد مجدداً من محدودية القدرة لدى "النظام العربي" على فرض الحلول، بل على جلب الفرقاء إلى مائدة الحوار. ويلاحظ أن هؤلاء وافقوا جميعاً، بمن فيهم المعارضة، على السفر لعقد حوار في فرنسا، وكأن المعارضة قررت مسبقاً أن الحوار في باريس لن يعدو كونه مجرد "علاقات عامة" غير مباشرة بين مرجعيتها الإيرانية - السورية وبين مرجعية خصمها الأميركية - الفرنسية، فإذا تبين أن هذا الحوار يمكن أن يثمر شيئاً في علاقات المرجعيتين يصار عندئذ إلى إنجاحه، وإلا فإن فشله المعلن يصبح عندئذ فعلياً. أما الوساطة العربية التي تطلعت إلى حل داخلي للأزمة، بعدما أشبعت الأفكار بحثاً وتمحيصاً، فقد حاولت المعارضة التعامل معها بايجابية أولاً، وعندما وجدتها جادة ومصممة اضطرت لاعتماد خطط التفافية ولو مكشوفة للتخلص منها. في النهاية، لابد من حوار ما لبلورة سيناريو تفكيك الأزمة وجدولة خطوات حله، ولابد أن ينعقد هذا الحوار في بيروت، لكنه ينتظر إشارة من الخارج. وهذه الإشارة تنتظر بدورها جملة تطورات لا تنفك تتأخر، ولن يكون حل في لبنان، أو في فلسطين، أو في العراق - إلا إذا اتضح أن الاتصالات الأميركية - الإيرانية اتخذت مسلكاً مرضياً لطهران، أما إذا انسجم الأمر فجأة باللجوء إلى مواجهة عسكرية، فإن الحلول ستضيع في الركام والدخان. ومهما بلغ الغباء أو الاستقواء أو الغرور، فإن الأطراف المعارضة، خصوصاً في لبنان، تعرف أن هناك ملامح حل تحتم عليها و"طنيتها" أن تسهله، لأسباب ومصالح لبنانية بحتة - لكنها تعرف أيضاً أنها دخلت منذ مدة مرحلة تعطيل الحلول ودفع البلد إلى الانتظار، لكنه انتظار مكشوف الأهداف: إيصال لبنان إلى الفوضى وتعطيل مؤسسات نظامه، فيصبح محكوماً عملياً بأكبر ميليشيا عسكرية هي "حزب الله"، وتصبح دولته عاجزة عن التعامل مع المرجعيات الدولية، وبذلك تتحقق لإيران مصلحة تتمثل في إيجاد تهديد دائم وراسخ لإسرائيل، كما تتحقق لسوريا مصلحة تعطيل المحكمة الدولية أو عرقلتها بالإضافة إلى مصلحة أخرى هي إدارة حكم لبنان عبر أنصارها. لا شأن للبنان، ولا لفلسطين أو للعراق، بأن تتعقد علاقات الولايات المتحدة مع إيران أو سوريا إلى هذا الحد الذي بات يتمثل يومياً بقتل وتفجير وذبح لأبناء هذه الشعوب. وبمقدار ما أن الحلف الإيراني - السوري لا يستطيع تقديم بدائل، فإن الولايات المتحدة فشلت أيضاً في مجمل أطروحاتها تحديداً بسبب السرطان الإسرائيلي الذي يقف حاجزاً بينها وبين المنطقة وشعوبها. وقد كان هذا السرطان سبباً رئيسياً في دفع الولايات المتحدة إلى تعطيل "الشرعيات" العربية وجعلها تحت رحمة الخارج، وعندما برزت الحاجة إليها للمساهمة في الحلول، انفضح عجزها، بل ظهر خصوصاً أن الفراغ الذي تركته قد انبرت إيران لملئه. ثمة بداية ممكنة للخروج من هذا الإشكال، قد لا تكون متاحة في العراق الآن، لكنها لا تزال ممكنة في لبنان وفلسطين قبل فوات الأوان. ولعل الشرط الأول لنجاحها الاستغناء عن خيار الحرب الأهلية الذي باتت الولايات المتحدة تستخدمه، كما يفعل الآخرون، ظناً منها أن إغراق الجميع هو الوسيلة الوحيدة لإنقاذ من يفترض إنقاذه لاحقاً.