جاءت قمة شرم الشيخ الاثنين الماضي كرد فعل على استيلاء "حماس" بالقعلى قطاع وة غزة. جمعت القمة "رباعي السلام" في المنطقة: الرئيس المصري حسني مبارك، والعاهل الأردني عبدالله الثاني، ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، ورئيس الوزراء الإسرائيلي، أيهود أولمرت. لعله من الواضح أن تسميتي لهذا الاجتماع بأنه يمثل "رباعي السلام" (بين مزدوجتين) يعكس مدى الوهم أو الخداع، أو أي شيء آخر، عدا حقيقة السلام المنشود. الرئيس المصري هو الوريث المؤتمن على إرث كامب ديفيد المصرية الإسرائيلية، ومحمود عباس معروف بأنه مهندس أوسلو. رئيس الوزراء الإسرائيلي هو الوريث المؤتمن من قبل المؤسسة الإسرائيلية على ما يعرف في تاريخ الدولة العبرية باستراتيجية "الجدار الحديدي". ما هي العلاقة بين هذه "الإنجازات" (بين مزدوجتين مرة أخرى) الثلاث؟ الأمر ليس واحداً، وربما حتى ليس متشابهاً في كل هذه الحالات الثلاث. لكن الحقيقة أن الأهم بين كل هذه الحالات، سواء من حيث حجم التأثير، أو الإنجار، هو الدور الموروث الذي يضطلع به أولمرت في قمة شرم الشيخ، كامتداد لدوره على رأس الحكومة الإسرائيلية. ليس مهماً هنا القول بأن حجم وتأثير إسرائيل هنا مستمد من علاقتها الاستراتيجية مع أميركا، والغرب عموماً. هذا صحيح، لكنه قد لا يكون دقيقاً من حيث أنه قد يهدف إلى تبخيس نجاح الإسرائيليين في توظيف هذه العلاقة بما يخدم أهدافهم الاستراتيجية حتى الآن على الأقل. وهو شيء يصعب إتهام الكثير من القيادات العربية بالتورط فيه. لنبدأ بالإرث الذي يضطلع به أولمرت، أو ما يعرف في التراث السياسي الإسرائيلي بـ" استراتيجية الجدار الحديدي". أعتمد هنا على ما جاء عن تاريخ هذا المفهوم في كتاب بروفسور يهودي معروف، وهو "آفي شليم". وقد اختار هذا الكاتب تعبير "الجدار الحديدي" عنواناً لكتابه الذي درس فيه تاريخ الصراع. إرث أولمرت يعود إلى عشرينيات القرن الماضي، ويتمثل في الاستراتيجية التي وضع أسسها الأب الروحي لحزب "الليكود"، "زئيف جابوتنسكي" في مقالتين هامتين له نشرتا عام 1923م. ينطلق "جابوتنسكي" من قناعة راسخة مفادها أن "سلاماً طوعياً بيننا (اليهود) وعرب فلسطين لا يمكن تصوره الآن، ولا حتى في المستقبل المنظور". لن يقبل هؤلاء العرب بتحويل فلسطين إلى بلد ذي أغلبية يهودية. والسبب كما يرى الكاتب والناشط السياسي الصهيوني، يعود إلى مبدأ إنساني، وهو أن "السكان الأصليين في أي بلد سوف يقاومون المستوطنين الغرباء طالما أن هناك أملا بأن يتخلصوا من الاستيطان الأجنبي." وهذا تحديداً، حسب جابوتنسكي، "ما سيفعله العرب (في مواجهة حركة الاستيطان الصهيوني) طالما أن لديهم ولو بصيصاً من الأمل بقدرتهم على حماية فلسطين من أن تتحول إلى أرض لإسرائيل." انطلاقاً من ذلك يصل جابوتنسكي إلى النتيجة التالية " لا يمكننا التعهد بأي مقابل لا لعرب فلسطين، ولا للعرب خارج فلسطين. التوصل إلى معاهدة طوعية واختيارية مع العرب غير ممكن أيضا. وبالتالي فإن أولئك الذين يعتبرون التوصل إلى معاهدة مع العرب شرطاً لا يمكن الاستغناء عنه بالنسبة للصهيونية يجب أن يعترفوا باستحالة الحصول على هذا الشرط إلا في حالة واحدة، وهي التخلي عن الصهيونية. في هذه الحالة أمامنا خياران: إما تجميد نشاطاتنا الاستيطانية، أو الاستمرار فيها مع عدم الالتفات إلى موقف السكان الأصليين (عرب فلسطين). والحقيقة أنه من الممكن أن يستمر الاستيطان، وأن يتطور، لكن تحت حماية قوة لا تعتمد على موقف أو رأي السكان المحليين، بل قوة تشكل جداراً حديدياً يقنع هؤلاء السكان بأنهم لا يملكون القدرة على هدمه وإسقاطه." بعبارة أخرى، يرى جابوتنسكي أن السياسة الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين يجب أن ترتكز بشكل أساسي على مفهوم "الجدار الحديدي" يكون من القوة والشراسة بحيث لا يترك أمام هؤلاء الفلسطينيين من خيار إلا اليأس من اختراقه أو إضعافه. جابوتنسكي لا يعني بذلك أنه يائس من التوصل إلى معاهدة ما مع عرب فلسطين. لكن قناعته هي أن هؤلاء العرب لن يقدموا اختياراً وطواعية على التوصل إلى مثل هذه المعاهدة. ولذلك يعيد ويكرر بأنه "طالما بقي لدى العرب شيء من الأمل بالتخلص منا فلا شيء هناك يمكن أن يدفعهم إلى التخلي عن هذا الأمل." ومن ثم فالمطلوب أولا وقبل كل شيء هو تخلي العرب عن مثل هذا الأمل. الشيء الوحيد ألذي يمكن أن يؤدي إلى هذه النتيجة هو استراتيجية "الجدار الحديدي". "عندها، وعندها فقط، سيفقد المتطرفون سطوتهم وتأثيرهم على الرأي العام، وستتحول هذه السطوة وقوة التأثير إلى الجماعات والقوى "المعتدلة. وعندها فقط سيتمكن هؤلاء المعتدلون من تقديم مقترحات لحل وسط، ويبدؤون بالتفاوض معنا على إجراءات عملية". قال جابوتنسكي كل ذلك قبل قيام الدولة اليهودية بربع قرن. والسياسة الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين بشكل خاص منذ 1984 وحتى هذه اللحظة ترتكز على مبدأ "الجدار الحديدي"، بهدف دفعهم نحو اليأس من فكرة المقاومة، وبالتالي التخلي عنها. الاحتلال مستمر، ومعه سياسة الاستيطان من دون توقف لخلق وقائع جديدة على الأرض. سياسة الاغتيالات، وهدم المنازل، ونشر المعابر ونقاط التفتيش في جميع الأراضي المحتلة مستمرة أيضاً. وكذلك الأمر مع سياسة التهجير. في السياق نفسه يأتي الرفض الإسرائيلي لمبدأ حق العودة، على الرغم من أنه مبدأ قانوني يرتكز على شرعية دولية. وهو رفض مستمد مما قاله "جابوتنسكي" عن ضرورة تخلي الفلسطينيين عن رفضهم لفكرة أن تكون فلسطين بلد بأغلبية يهودية. (ص11-16) ماذا يعني كل ذلك بالنسبة لقمة شرم الشيخ الأخيرة؟ تندرج هذه القمة في سياق ما يسمى بعملية السلام. ولعله من الواضح أن السياسة الإسرائيلية في هذه العملية تنطلق من، وتنتهي عند مبدأ الجدار الحديدي. والدليل أن هذه العملية منذ بدايتها وفرت غطاء سياسياً متيناً لعملية الاستيطان، وأطلقت يد قوة "الجدار الحديدي" المتمثلة بـ"جيش الدفاع الإسرائيلي" في الأراضي المحتلة. وللتذكير لم تبدأ عملية السلام في مدريد عام 1991م. بل بدأت بزيارة الرئيس المصري الراحل، أنور السادات، إلى القدس المحتلة عام 1977م. ولك أن تسأل عن نتائج هذه العملية التي استمرت الآن لأكثر من ثلاثين سنة. اللافت هنا أن هدف قمة شرم الشيخ انحصر في دعم الرئيس الفلسطيني أبومازن، ودعم سلطته في غزة. الهدف هو إضعاف وعزل حماس، وليس دعم عملية السلام. إسرائيليا، ومنذ جابوتنسكي وحتى أولمرت، يبقى هذا السلام بعيد المنال طالما لم تحقق الدولة اليهودية هدفها في السيطرة على أغلب أراضي الضفة الغربية. بل إن رئيس الوزراء الإسرائيلي حذر من فرط التفاؤل بنتائج هذه القمة. وهو ما يتفق تماما مع السياسة الإسرائيلية التي ترفض فكرة السلام في المرحلة الحالية، ومنذ زمن جابوتنسكي. في هذه الحالة لم توفر قمة شرم الشيخ غطاء سياسيا للسلطة الفلسطينية في رام الله، بل وفرت الشيء نفسه، وربما ماهو أكثر، لسياسة الجدار الحديدي الإسرائيلية. الرئيس أبو مازن هو رمز الاعتدال بالنسبة للعرب وللمجتمع الدولي. وهو كذلك أيضا بين الفلسطينيين، ويحظى بالكثير من الاحترام في الداخل والخارج. السؤال إلى أي مدى يمكن أن يستفيد أبو مازن من قمة شرم الشيخ، وهي انعقدت تحت المفهوم المذكور، والهدف الضيق الذي لا يتسع لعملية السلام؟ يتم توظيف صفة الاعتدال العربي من قبل الأميركيين والإسرائيليين، لأهداف لا علاقة لها لا بالاعتدال، ولا بالسلام. ماذا بقي أن يقال عن دور العاهل الأردني في هذه القمة؟ الحقيقة أن كل ما قيل هنا يشمل الأردن ودوره الإقليمي، من حيث أنه كان ولا يزال أحد أعمدة ما يسمى بالاعتدال العربي. بقيت الإشارة إلى أن عنوان هذه المقالة مأخوذ من مقالة لكاتب إسرائيلي، سيفر بلوكر، نشرت الأحد الماضي على الموقع الإلكتروني لصحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية. في مقالته استعرض الكاتب كل قمم شرم الشيخ منذ 1996 ، وكيف أن كل هذه القمم انتهت إلى لا شيء. يلمح الكاتب بذلك إلى أن لعنة الفشل تلاحق قمم شرم الشيخ. يتساءل هل يختلف الأمر هذه المرة؟ والاختلاف بالنسبة له هو أن تلتزم هذه القمة بالوعد التاريخي الذي أعلنته قمة الشرم عام 1996 بتصفية "حماس". هذا الكاتب يستعجل تحقيق كل نبوءة "جابوتنسكي "دفعة واحدة، وبالتالي من الطبيعي بالنسبة له أن تلاحق اللعنة قمم شرم الشيخ من هذه الزاوية. لكن هناك لعنة أخرى تلاحق هذه القمم، وهي أنها توفر غطاء لما يمكن أن يؤدي إلى تحقيق عملي ومتدرج للنبوءة نفسها.