بعد أن توقفنا في المقال السابق مع ما طرحه كتاب الأستاذ يوسف الحاج، الذي يحمل العنوان أعلاه، حول بذور الحركة الصهيونية وجذورها وعلاقتها بالماسونية وبعض الحركات الهدامة، من أجل الوصول إلى إقامة ما يدعى "المملكة الثالثة لإسرائيل" في فلسطين، وهو ما كان يعتبر في الثلاثينيات من القرن العشرين كشفاً عن أهداف الصهاينة ومكائدهم لتحقيق هذه الأهداف، نعود اليوم لنقف مع أفكار جديدة يكشف عنها الكتاب مما لم يكن شائعاً في ذلك الوقت. يتوقف الكتاب خصوصاً عند علاقة بريطانيا بالمشروع الصهيوني، بدءاً من وعد بلفور المشؤوم، كما يشير المؤلف، وهو ما يؤشر على الوعي المبكر تجاه المشروع الصهيوني المدعوم عالمياً، وهو أيضاً ما يحملنا من ذلك الماضي القريب إلى حاضرنا الذي تتضافر فيه جهودٌ ومؤامراتٌ ضدنا لتديم أمد هزيمتنا. وقد تتغير أسماء الدول التي تتبنى المشروع الصهيوني وتدعمه بلا حدود، إلا أن الثابت في هذه المسألة محاولة الغرب استغلال هذا المشروع لإدامة ضعف العرب وتمزقهم، وإدامة الهيمنة الغربية على المنطقة. هذا الوعي المبكر بمخاطر المشروع الصهيوني، جاء مصحوباً بقدر من التسامح من قبل العرب والمسلمين تجاه اليهود، ويتوقف مع الهجرات الأولى لليهود إلى فلسطين، هذه الهجرات التي بدأت منذ منتصف القرن الثامن عشر تقريباً، وكانت تتم بذريعة ما كان يقال إن اليهود يتعرضون له في أوروبا، فيقول: "يشهد الله أننا ما قصرنا في شيء من العطف على أبناء إسرائيل طيلة السنين التي خالطناهم فيها"، ثم يكشف عن نواياهم قائلاً: "أما وقد قاموا اليوم يجاهرون بنياتهم وجاءوا يطالبون بفلسطين ولبنان وسوريا والعراق كملك لهم بحق مكتسب إرثاً شرعياً لهم عن أجدادهم.. متسترين وراء المسكنة باسم الإنسان الطريد المظلوم، فأي عذر لنا إذا بقينا مستنيمين إلى الثقة بين منازع العيش ومخاوف الحياة؟". وتأكيداً على هذا الموقف، يشير يوسف الحاج إلى أن كون العرب يتعاطفون مع "المساكين المشتتين في الأرض بسبب أعمال زعمائهم" يجب ألا يجعلنا "نسكت مطلقاً عن دخولهم بلادنا وفي صدورهم حمية وفي رؤوسهم غرور لإعادة المملكة اليهودية فيها حسب نص التوراة حرفاً بحرف وعلى ما يريد بنو إسرائيل أن يفسروا التوراة". وهو أيضاً من أوائل من أكدوا على أنه حتى لو قام المهاجرون اليهود بتحويل فلسطين إلى جنة، فإن هذه الجنة "ستصبح لهم ولعيالهم.. وقل: على أبناء تلك الأمة السلام". لكن كل هذه التحذيرات والتنبيهات التي وجهها يوسف الحاج، وغيره من مفكري ومناضلي الأمة آنذاك، لم تمنع وقوع الكارثة، وكانت البداية بانتصار بريطانيا، ووقوع فلسطين تحت الانتداب، وبداية التحضير لإقامة الدولة بناء على وعد اللورد بلفور الموجه إلى الزعيم الصهيوني اللورد "روتشيلد"، هذا الوعد الذي نص على تسهيل بناء "الوطن القومي اليهودي"، مع وعد مقابل من بلفور بـ"عدم الانتقاص من حقوق الطوائف غير اليهودية دينية كانت أو سياسية أو.. الخ". لكن الإدارة البريطانية كانت حريصة على بند "الوطن القومي اليهودي"، وأهملت البند الآخر الخاص بحقوق العرب إهمالاً تاماً.. من خلال مماطلات لا تختلف عن المماطلات وأشكال الخداع الراهن من قبل الغرب في ما يتعلق بإقامة الدولة الفلسطينية مثلاً. من كل هذه المقدمات للمشروع الصهيوني، وربطها بما يجري اليوم، لا نجد كبير فرق بين الخطط والمؤامرات العالمية التي تقودها عادة القوى الكبرى في العالم، من أجل المزيد من الهيمنة، ووسائل استخدام الدول والقوى الإقليمية لتحقيق أهدافها بعيدة المدى، متذرعة في ذلك بكل الذرائع، ففي حين تذرعت بريطانيا في وعدها "بلفور" بالظلم الذي يلحق باليهود، نجد أميركا تتذرع اليوم في هجومها على المنطقة بما تدعي أنه "حرب على الإرهاب"، وسعي إلى تحقيق الديمقراطية في العالم، بينما يمكن لأي متابع مهما كان أن يلحظ أن ما تفعله القوة العظمى أبعد ما يكون عن الديمقراطية. ونتابع في حلقة قادمة. د. موزة غباش ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ رئيسة رواق عوشة بنت حسين الثقافي وجمعية الدراسات الإنسانية - دبي