في بدايات التسعينيات عززت رواندا كل الصور النمطية السلبية عن أفريقيا كقارة فقيرة فقراً مدقعاً وممزقة بفعل الحروب ومكتوب عليها أن تظل إلى الأبد نموذجاً للفشل الذريع على المستوى العالمي. أما الآن، فإن رواندا قد أصبحت نموذجاً للدولة الصغيرة، النظيفة، الآمنة، التي تتمتع بنمو اقتصادي يفوق معدله معدل النمو في الولايات المتحدة أو أوروبا بمرتين ونصف. ورواندا فضلاً عن ذلك، تؤكد شيئاً قد لا يكون ملحوظاً بدرجة كافية، وهو وجود علامات على حدوث تحول نحو الأفضل في قارة أفريقيا وأن هناك من الأسباب ما يدعو للتفاؤل. وهذا المقال هو الأخير في سلسلة المقالات التي كتبتها خلال الرحلة الحالية التي أقوم بها في أفريقيا والتي احتوت -المقالات- على العديد من قصص المعاناة الباعثة على الكآبة، وهو ما يدفعني، وأنا أكتب مقالي هذا إلى التركيز على الجوانب المشرقة في رواندا وفي أفريقيا على وجه العموم، وهي جوانب تكشف عن الإمكانيات والقدرات الكامنة في القارة، عندما يتوافر فيها الاستقرار والحكم الرشيد. في بدايات ستينيات القرن الماضي، كانت معظم الدول الأفريقية أغنى من مثيلاتها في آسيا، وهو ما دفع معظم الاقتصاديين في ذلك الوقت للاعتقاد بأن أفريقيا سوف تتفوق على آسيا بمراحل كما دفع البنك الدولي لتحديد أسماء مجموعة من الدول الأفريقية التي توقع أن تحقق نسبة نمو تتجاوز 7 في المئة سنوياً. بيد أن الذي حدث بالفعل كان مختلفاً عن ذلك ومخيباً لكل تلك التوقعات، حيث واجهت أفريقيا أوضاعاً اقتصادية حرجة أعاقت عملية التنمية بها. فثلث الدول الأفريقية التي تتوافر عنها بيانات يمكن الاعتماد عليها، شهدت تدهوراً لنصيب الفرد من الناتج القومي الإجمالي الذي أصبح الآن أقل مما كان عليه في تاريخ الاستقلال (معظم الدول الأفريقية استقلت عام 1960). علاوة على ذلك نجد أن أسوأ خمس دول في الأداء الاقتصادي خلال الفترة من 1960- 2001 هي دول أفريقية. ولكن ما الذي حدث وأدى إلى ذلك؟ السببان الرئيسيان لذلك في رأيي هما فساد الحكم من جهة، والتمزقات التي شهدتها العديد من الدول الأفريقية جراء الحروب من جهة ثانية. بالنسبة للحروب يمكن القول إن الوضع الآن لا يقل سوءا عما كان عليه من قبل (أزمة دارفور تلخص تلك الأوضاع كلها)، بيد أن الأمر الذي لا شك فيه أن أسلوب الحكم آخذ في التحسن بشكل كبير كما يدل على ذلك العديد من الشهود. فهناك في الوقت الراهن عدد يتزايد باستمرار من القادة الجيدين في أفريقيا ممن يتمتعون بالأمانة والذكاء والقدرة، مثل الرئيس الرواندي "بول كاجيم".. فكاجيم رجل مثقف يقرأ "هارفارد بيزنس ريفيو" ويمثل نسخة أفريقية من "لي كوان يو" مؤسسة سنغافورة الحديثة. وما يجمع بين الرجلان هو أن كلاهما سلطوي، وقمعي، ويقدم أحياناً على اتخاذ قرارات تتسم بالغرابة، منها على سبيل المثال إقدام "كاجيم" على تحريم استخدام أكياس البلاستيك للحد من انتشار القمامة، وكلاهما أيضا صنع المعجزات في مجال رفع مستوى المعيشة في بلديهما كما أنهما يتصفان بالصرامة. عندما سألت "كاجيم" عن السبب في أن الدول الآسيوية التي كانت على نفس المستوى مع الدول الأفريقية قد أصبحت تفوقها الآن في الثراء، كان رده على مفاجئا في الحقيقة، وهو أن الآسيويين اليوم أكثر طموحاً ويعملون بجدية أكثر. وأضاف كاجيم:" إنني أتحرج عادة من الحديث عن موضوع الثقافة.. ولكن يجب على أن أتحدث فيه الآن، كما يجب علينا جميعا أن نشتغل عليه وأن نعرف أن ثقافة العمل الجاد والطموح والرغبة في الإنجاز التي يتمتع بها الآسيويون اليوم هي السبب الأساسي في تفوقهم. وأنا أعرف أن تلك الصفات كانت موجودة في الأفارقة، ولكنني لست أدرى ما الذي حدث وأدى إلى تدهورها بل وقتلها". لقد أراد "كاجيم" أن يمارس النقد الذاتي، ولكنه قسا كثيراً على قارته ذلك أن الحقيقة هي أن التراخي في العمل لدى الشعوب الأفريقية يرجع إلى انتشار الأمراض مثل الملاريا، والأنيميا، والأمراض المعوية، والآفات، وسوء الحكم، أكثر مما يتعلق بالثقافة. والدليل على صواب هذا الرأي أن الدول الأفريقية التي تمتعت بالاستقرار، وطُبِقت فيها سياسات سليمة، كانت غالباً ما تزدهر، ومنها على سبيل المثال بوتسوانا التي كانت أسرع دول العالم نموا خلال الفترة من 1960- 2001. (جاءت كوريا الجنوبية في المركز الثاني، وسنغافورة والصين في المركز الثالث والثالث مكرر خلال الفترة ذاتها). في الوقت الراهن هناك عدد آخذ في التزايد من الدول الأفريقية، قد بدأ يحذو حذو نموذج بتسوانا الذي يرحب بالمستثمرين ويحترم قوانين السوق ويغير من هيكل اقتصاده من أجل الاندماج في منظومة الاقتصاد العالمي. فبالإضافة إلى رواندا هناك دول مثل موزمبيق وبينين، وتنزانيا، وليبيريا ومورشيوس تعد الآن من ضمن الدول التي تحاول أن تبني مستقبلاً يقوم على التجارة أكثر مما يقوم على المعونات. بعد عقود من الركود، بدأت أفريقيا تنمو بشكل حثيث خلال السنوات الأخيرة حيث يتوقع أن يصل معدل النمو الاقتصادي فيها إلى 6 في المئة. بالنسبة لي أعتقد أن جزءاً كبيراً من القارة الأفريقية، يبدو الآن مثلما كانت الهند تبدو في مطلع التسعينيات، عندما بدأت في إصلاح اقتصادها، وتهيئة المسرح للازدهار الذي تشهده اليوم. وكم نصيحة يمكنكم الاستفادة منها إذا ما كنتم تريدون أن تشتروا عقاراً... فاشتروه في بنين وراوندا. نيكولاس كريستوف كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"