مصطلح "هاجس التآمر" ليس حكرا على عالم السياسة، فقد يكون بين الأطباء في المستشفيات، أو موظفي الدوائر الرسمية، بل وبين مصلحي "عوادم" السيارات وسائقي الشاحنات! وسرّه في آلية التشكل؛ فنحن نظن أن العالم يتآمر علينا، ولذا فنحن نتآمر، فلا نتعامل بين بعضنا بعضاً إلا بالمواربة والكيد. وكنا نتهم بعضنا بالتقية، فتبين أن معظم العالم الإسلامي يتبنى هذه الطريقة في حياته العملية من دون أن يعلن عنها! وأذكر منذ نعومة أظفاري، أننا حُقِنّا بسموم من الكراهية والحقد لمن يختلف معنا، ووصل الأمر إلى ضرب بعضنا بعضاً بالأيدي والعصي والأسلحة... وهو أمر حين أتذكره أفهم انفجارات العراق، وصراع "البعث" و"الإخوان"، و"فتح" و"حماس"... بكل حماس! وروى لي صديقي "مأمون" عن واقعة محل لهم في دمشق، كيف استولى عليه ضابط يمني من شباب "حزب البعث" اليمني (جماعة عدن)، بعد أن قتل الرفاق بعضهم بعضاً فخرجوا من قاعة اللقاء الحزبي نصف مقتولين ونصف مشلولين، يزحفون زحفاً إلى الجبال. ذلك "الرفيق" الحزبي رسا به المطاف عند رفاقه في بلاد الشام، فأصبح مخيفاً بين أهل البلد، واستولى على المحل، وبدأ في صناعة "المندي" الحضرموتي، وبدأ أهل الخليج يتوافدون على طعامه ويدفعون بسخاء. تعنت الرفيق العدني ومانع في دفع الإيجار، وبقدر ارتفاع مدخول المحل، بقدر إمساك يده عن حقوق الناس، وصرفه على الراقصات وحفلات السكر والقمار والرفاق! قال لي هذا الصديق: لقد بدأنا رحلة استرداد المحل بأشد من معارك البوسنة والهرسك، ولم يكن لنا أن نحل مشاكلنا عن طريق القضاء، فالبلد يشتغل بآليات تتداخل فيها اعتبارات كثيرة، ومن يدفع أكثر هو الذي يربح القضية، خاصة أن كثيرين من مختلف القطاعات لبسوا عباءات القضاة. ونحن نعلم أنه في ظل بعض الأنظمة الثورية العربية، يحكم على من فتح الإنترنت فقرأ مقالتين ونصف، وأرسلها إلى شخصين ونصف، بالسجن سنتين ونصف، وهي قصص معروفة، لا يكاد يجهلها أحد، كما لم يكن لمخلوق أن يصدقها لولا حصولها فعلاً... المهم أن العقلية التآمرية ظاهرة نفسية، تبدأ كحصاد الهشيم أولا من الداخل فتأكل صاحبها، ثم تمتد في كل فروع الحياة وحقول النشاط الإنساني، وهي ليست حكرا على ميدان السياسة. ويكون مخطئاً جداً من يوظفها في حقل السياسة. وحسب التجارب الميدانية اليومية، فقد "يطير" رئيس وحدة من منصبه وهو في إجازته، فإذا رجع فوجئ بـ"انقلاب عسكري" عليه، ومؤامرة حيكت بدقة، ليكتشف أنه ووحدته "طارا" من دون أجنحة بجرة قلم، من دون إخباره بكلمة واحدة عما جرى! وهذا أمر لو حصل في ألمانيا أو كندا، لخرت قبة السماء كما يقال، فهناك قضايا حقوقية وقانونية خطيرة من وراء قرارات فجائية من هذا النوع، لكن هذه هي حالة العالم العربي، فلا أمان لأي إنسان في أي زمان أو مكان. وأذكر أننا كنا يوماً معتقلين في فرع الحلبوني لصالح المخابرات العامة، بسبب وجودنا، أنا والشيخ جودت سعيد في السلمية، فتحركت مظاهرات في مدينة حمص، فألقي القبض علينا (احترازياً!)، وهجم رجال المخابرات علينا بالرشاشات فاعتقلونا على الشبهة، وكنت أنا مع المعتقلين مع رفقة دراجتي النارية التي تسلمتها لدى الإفراج عني بعد 250 يوماً، وهي تعاني من الحبس أكثر مني، فقد استعملها الرفاق طيلة الوقت حتى جعلوها حطاماً ركاماً، وكان عليّ أنا الطالب الفقير أن أصلحها من جيبي الخاص! وذات يوم ونحن في المعتقل، دخل علينا رجل جاحظ العينين، زائغ البصر، لا يكاد يصدق أنه في لحظات أصبح بين أربعة جدران، ثم التفت إلينا بإحباط عميق فقال وهو يتلفت فيما حوله: انظروا إلى وعاء القمامة هذا، لو رأيته طار من مكانه للسقف من دون أجنحة ثم حطّ، لما تعجبت، فأرض العروبة أرض الأعاجيب..! فهل يمكن أن نكف عن الحديث للحظات عن فظاعات إسرائيل وجوانتانامو؟!