لا يختلف العربُ والعجم على أن لبنان درّة جميلة شاء قدرها أن تكون في تاج الموت! فما تجده في هذا البلد يندر أن تجده في أي بلد عربي آخر. فالسياحة في هذا البلد تعتمد على النظافة والجمال وتقديم الأجمل. تماماً كما تعتمد على روح العلاقات العامة ولباقة الترحيب بالضيف، والتي يندر أن تجدها في بلد عربي آخر. والجمال –الطبيعي منه والإنساني– تجده من دون تشويه. والأذواق تُلبى مع اللحظة. ومن أراد السهرات العامرة، فعليه بجونية ومراتعها والجبل وأسراره. ومن أراد البحر فعليه بالشواطئ التي تمثل أكثر مساحات هذا البلد. ومن أراد السياسة وأحاديثها، فدكاكين السياسة مفتوحة حتى الصباح. ومن أراد التفجيرات والسيارات المُفخخة وأنواع الاغتيالات أيضاً، يجدها بسهولة! قد لا يسعنا الوقت لرصد النموذج الأخير، أي الاغتيالات، وخصوصاً السياسية منها، لأن ثقافة الموت تنتشر بسرعة في بلد الحياة. وحالة الانقسام التي يعيشها لبنان والتحالفات "الغريبة" على أرضه؛ أعداء الأمس أضحوا أصدقاء اليوم، وأصدقاء الأمس أصبحوا خصوم اليوم. وقوافل الموت تتستر تحت جنح الظلام لتؤسس مرتعاً للقتل في نهر البارد. ومجهولون يعتدون على قوات حفظ السلام الدولية التي لديها حصانة وجاءت لهذا البلد من أجل هدف نبيل هو وقف أنهار الدم، ووقف الاعتداءات الإسرائيلية على السكان الآمنين. بعد اغتيال الوزير "بيير الجميل"، استنكر الجميع حادث الاغتيال على الطريقة العربية الماجدة! لكن هناك حتماً جهة واحدة على الأقل لها مصلحة في اغتيال الراحل! وهذا يجعلنا نتحسس من الذين مشوا في الجنازة! ولقد تابعت جميع البيانات الصادرة من الجهات المتخاصمة في لبنان، وكلها تدين الاعتداء على حياة الوزير. فمن يا ترى يقف وراء عملية الاغتيال النكراء؟! أتمنى ألا يظهر صوت لبناني أو عربي ليتهم إسرائيل أو زيمبابوي في العملية! نحن العرب نؤمن كثيراً بنظرية المؤامرة، وما لا نستطيع كشفه للشعوب نعلقه على مشجب إسرائيل أو العدو المجهول أحياناً. وهذا يذكرني بالمثل المصري "يقتل القتيل ويمشي في جنازته"! حتماً سيكون أحد الأطراف التي شجبت ودانت عملية الاغتيال له يد في العملية. كما أننا لا نعتقد أن بورما أو تايلاند أو نيكاراغوا... لها مصلحة في قتل الوزير أو زعزعة الأمن في لبنان. وبذلك الاغتيال تبرز قائمة المغدورين من اللبنانيين الذين قضوا من رياض الصلح عام 1953، وكامل مروة عام 1966، ومعروف سعد عام 1975، وكمال جنبلاط عام 1977، وانطوني فرنجية عام 1978، وسليم اللوزي عام 1980، ورياض طه عام 1980، وبشير الجميل عام 1982، ورشيد كرامي عام 1987، والشيخ حسن خالد عام 1989، ورينيه معوض عام 1989، وداني شمعون عام 1990، وعباس الموسوي عام 1992، وإيلي حبيقة عام 2002، ورفيق الحريري عام 2005، وسمير قصير عام 2005، وجبران تويني عام 2005، ووليد عيدو عام 2007، وقد نكون نسينا أحدهم. ونلاحظ أن القائمة تشمل زعماء ورؤساء وصحافيين وممثلي كتل، وهم جميعاً من طوائف لبنان المتعددة (سنة، شيعة، مسيحيين)، وهذا يجعلنا نشعر، وبكل ألم، أن يد الموت التي تعبث بلبنان لا تفرّق بين الوجوه ولا المذاهب ولا الاتجاهات! وأن "ترمومتر السياسة" الذي ينجذب هنا وهناك، هو الذي يحدد الضحية ويأمر يد الموت بتنفيذ الجريمة. نقول هذه المقدمة لأن العرب الذين غادروا لبنان العام الماضي، رغماً عنهم، كانوا يأملون أن يعودوا هذا الصيف إلى مراتعهم ويعوّضوا الخوف والرعب اللذين مارستهما آلة الموت الإسرائيلية ضد لبنان. لكن يبدو أن آمال العرب قد تضاءلت في الذهاب إلى هذا البلد الجميل. حيث بدؤوا في تغيير وجهاتهم الصيفية وأعطوا لبنان ظهورهم. في ذات الوقت بدأ نواب الأكثرية يهجرون لبنان خوفاً على حياتهم. وذلك إلى حين حلول موعد الانتخابات الرئاسية في سبتمبر القادم. كما لم تحدد البلدان التي لجأ إليها هؤلاء النواب حفاظاً على سلامتهم! وهذا يذكرنا بعملية اغتيال الصحافي جبران تويني الذي سكن في باريس لفترة، واغتيل في اليوم التالي بعد عودته إلى لبنان. وفي الوقت الذي ما تزال فيه المعارك دائرة في مخيم نهر البارد، ترد أنباء عن الجنسيات التي قاتلت الجيش اللبناني من داخل المخيم، حيث قتل 20 سعودياً من أصل 42 يقاتلون إلى جانب "فتح الإسلام"، كما زادت حرارة الحدود اللبنانية السورية على إثر نشر أكثر من 300 عنصر من الأمن اللبناني على الحدود لمؤازرة الجيش في منع تهريب الأسلحة إلى داخل لبنان، بعد أن تأكدت للحكومة اللبنانية عمليات التهريب من تلك الحدود. وفيما نسمع يومياً عن تقدم للجيش اللبناني في مخيم نهر البارد، وعن عملياته لنزع الأسلحة والألغام التي خلفها المقاتلون، من أجل لا قضية، فقد سقط العشرات من أبناء الجيش قتلى وجرحى. سقطوا برصاص مسلمين يستضيفهم لبنان، كعادته في الاستضافة التي تأتي على رأسه ورأس أهله الطيبين، وهم لا يقدرون تلك الاستضافة، ولا يحاولون تضميد جراح هذا البلد الذي مزقته الحرب الأهلية ردحاً من الزمن ومزقته آلة الحرب الإسرائيلية على مر الأيام منذ قيام الكيان الصهيوني عام 1948. كما واجه لبنان في أواخر يوليو الماضي توترات بين أنصار "حزب الكتائب" و"التيار الوطني الحر" في منطقة المتن (شمال شرق بيروت) حيث ساد جو من التوتر بشأن الانتخابات الفرعية. وتبادل الطرفان الاتهامات بإثارة التوتر؛ حيث سقط بعض الجرحى جراء تلك المواجهات العنيفة. وكان زعيم "حزب الله" السيد حسن نصر الله، قد دعا اللبنانيين إلى المصالحة الوطنية مشدداً على دور المقاومة وحماية أمن البلاد. يأتي ذلك قبل انعقاد الوزاري العربي الذي انشق فيه العرب وتباينت الآراء حول القضايا المصيرية، كالقضية الفلسطينية، وحول مسوغات التخاطب مع كل من الرئاسة الفلسطينية و"حماس". في وقت لم يتم الحديث عن لبنان في تلك الاجتماعات التي سادتها أجواء من التوتر بسبب إعلان الوزراء موقفهم من خطاب الرئيس الأميركي جورج بوش، خصوصاً فيما يتعلق بحل الدولتين وقيام دولة فلسطينية مستقلة. حيث تحفظت سوريا – عن طريق مندوبها في القاهرة – على أي ترحيب عربي بخطاب بوش! وأعلن المندوب السوري رفض سوريا عقد مؤتمر دولي لتسوية القضية الفلسطينية في ظل الانقسام الفلسطيني. ما يزال مصير لبنان بيد الغيب. وما زالت آلة الحرب تحصد المزيد من الأرواح، وتغذي روح التشفي والانتقام، وما يزال كل لبنان يخسر جراء عدم وحدته والتئام صفوف أبنائه.