أثارت عملية الإفراج عن الممرضات البلغاريات والطبيب الفلسطيني، الذين ظلوا محتجزين في ليبيا على امتداد ثماني سنوات، العديد من التعليقات سواء في فرنسا التي لعبت دوراً رئيسياً في إطلاق سراحهم، أو لدى المراقبين في الخارج. ويبدو أن التعليقات انصبَّت بوجه خاص على تدخل "سيسيليا ساركوزي"، عقيلة الرئيس الفرنسي، في قضية الممرضات وإسهامها الواضح في إنهاء محنتهم وتسريع عودتهم إلى بلغاريا. ومما كان لافتاً للمراقبين، الزيارتان اللتان قامت بهما زوجة الرئيس الفرنسي إلى طرابلس، واللتان ترافق مع الأخيرة منهما إعلان السلطات الليبية الإفراج عن الممرضات البلغاريات والطبيب الفلسطيني. وبالطبع لم تمر هذه التحركات دون انتباه وسائل الإعلام التي راحت تتحدث عن دور جديد لزوجة الرئيس في السياسة الخارجية للجمهورية الفرنسية، لاسيما وأنه دور فرض نفسه بقوة، وعلى نحو غير معهود في التقاليد السياسية الفرنسية. فعلى رغم الدور النشط الذي لعبته "دانيال ميتران" على الساحة الدولية، فإنه ظل في مجمله قاصراً على الجانب النضالي، أو الاحتجاجي، مع مسافة واضحة تفصله عن الخط الرسمي للدبلوماسية الفرنسية (مثل مساندتها للأكراد، وتعاطفها مع فيديل كاسترو). ومن جهتها اهتمت السيدة "شيراك" بالعمل الاجتماعي والخيري داخل فرنسا، دون أن تطمح إلى لعب دور على الساحة الخارجية. بيد أن التحرك الذي أقدمت عليه "سيسيليا ساركوزي" مؤخراً يختلف تماماً عن الأدوار السابقة لزوجات الرؤساء الفرنسيين، بعد أن تجاوزت الإطار غير الرسمي. فهي وإن كانت قد ظلت تعمل في سياق العمل الإنساني العام، إلا أنها اقتربت كثيراً من مجال تحرك الدبلوماسية الفرنسية والسياسة الخارجية للجمهورية، التي هي من اختصاص الرئيس الفرنسي نفسه. غير أن هذا الأخير يرى، على ما يبدو، أن البعد الإنساني والشخصي ضروري في عمليات التفاوض، وأن زوجته هي أفضل من يجسد هذا الجانب الإنساني في العلاقات الخارجية، خاصة بعد أن اتضح أنها نجحت فعلاً في التواصل الإيجابي مع المسؤولين الليبيين، ومن ثم إخراج الاتفاق الأخير إلى حيز الوجود. لكن المؤشر الأبرز الذي يشير إليه الاتفاق الأخير مع ليبيا هو حجم السلطات الذي بات يتمتع بها قصر الإليزيه في صياغة السياسة الخارجية الفرنسية، واحتكار الرئيس للأوراق كافة بين يديه. ولعل مشاركة أمين عام الرئاسة الفرنسية "كلود جيو" المتأخرة في المفاوضات تأتي لتؤكد هذا التوجه، الذي يبدو أن الرئيس "ساركوزي" يسعى إلى ترسيخه منذ صعوده إلى السلطة. فهل يمكن الحديث عن نهج جديد في السياسة الخارجية الفرنسية خطته "سيسيليا" بتدخلها الأخير؟ قد يكون من المبكر الجزم بذلك، أو تحديد موقف قاطع، لكن جميع المؤشرات تحمل على الاعتقاد بأن الحالة لن تكون معزولة. فلربما قررت "سيسيليا ساركوزي" تولي منصب السيدة الأولى، على غرار ما هو شائع من تقاليد في الحياة السياسية الأميركية، ومن ثم الاضطلاع بدور نشط في دعم السياسة الخارجية الفرنسية بتنسيق وثيق مع الرئيس. لكن بصرف النظر عن زوجة الرئيس الفرنسي ودورها المرتقب في الحياة السياسية الفرنسية، تبقى مكانة ليبيا الدولية وعلاقتها مع فرنسا أكثر أهمية. فعلى مدى سنوات عديدة لم تحظَ ليبيا بتعاطف دولي لما كانت تتهم به من تسبب في مشاكل مرتبطة بمساندة الحركات المسلحة والمتمردة سواء في أوروبا مثل الجيش الجمهوري الأيرلندي، أو في مناطق العالم المختلفة الأخرى. وهكذا اكتسبت ليبيا، في التصنيف الغربي، سمعة "الدولة الراعية للإرهاب"، ناهيك عن مزاج عام كثيراً ما أغاظ بعض الزعماء العرب والغربيين. ويضاف إلى ذلك الحوادث الدامية التي اتهمت فيها ليبيا مثل تفجير طائرة "بانام" عام 1988 فوق بلدة "لوكربي" الاسكتلندية، وهو تفجير أودى بحياة 270 شخصاً. وفي عام 1989 انفجرت طائرة فرنسية فوق صحراء النيجر ما أدى إلى مقتل 170 من ركابها، لتشير التحقيقات التي أجريت لاحقاً إلى تورط ليبي. وكرد فعل على ذلك فرضت الولايات المتحدة حصاراً على ليبيا، كما فرضت الأمم المتحدة عقوبات اقتصادية عليها استمرت من 1992 إلى غاية 2003. هذه العقوبات الدولية عمقت من عزلة ليبيا على الساحة الدولية، وألحقت ضرراً بالغاً باقتصادها، بحيث لم يعد البلد قادراً على استغلال موارده البترولية الكبيرة الاستغلال الأمثل. ولم تعد الإنجازات الليبية على المستويين الاقتصادي والدبلوماسي بحجم التطلعات الطموحة للزعيم معمر القذافي. ولعل هذا ما دفع الزعيم الليبي في عام 2003 إلى ترميم علاقته مع الولايات المتحدة، من خلال الإعلان عن تخليه على برنامجه النووي والكيماوي، وتسوية مشكلة لوكيربي، فاتحاً بذلك باب التعويضات لأسر الضحايا. ولم يكن غريباً أن يختار الرئيس الفرنسي ليبيا كأول محطة له خلال زيارته التي حملته إلى عدد من البلدان الأفريقية، اعترافاً منه بالدور الليبي في تعزيز الوحدة الأفريقية من جهة، وتشجيعاً منه للتوجه الليبي في الآونة الأخيرة المنفتح على الغرب من جهة أخرى. وفي هذا الإطار يطمح "ساركوزي" أيضاً إلى ضمان تأييد ليبيا للمشروع المتوسطي الجديد الذي يروج له بين دول المغرب العربي، لاسيما وأن التحفظ الليبي تجاه مسلسل برشلونة كان كفيلاً بتأخير مساره وعرقلة تقدمه ونجاحه. ولا ننسى أيضاً العلاقات الاقتصادية والاستثمارات الضرورية التي تحتاجها ليبيا في هذه الفترة للنهوض بقطاعها النفطي المترهِّل. ولا يستبعد في هذا السياق أن تهب الشركات الفرنسية للاستثمار في ليبيا، أو لعقد صفقات ضخمة مثل شركة "إيرباص" التي قد تزود الأسطول الجوي الليبي بطائرات مدنية جديدة. أو كأن تقوم الشركات العسكرية الفرنسية مثل "داسو" بتزويد طرابلس بمعدات عسكرية حديثة. ومع أن البعض قد ينتقد الطبيعة التجارية للعلاقات بين ليبيا وجيرانها على الضفة الشمالية من البحر الأبيض المتوسط وخلوها من مبادئ، أو قيم مشتركة تعزز الروابط بينهما، إلا أن الجميع، سواء في أوروبا أو في أميركا، بات مدركاً أنه من الأفضل إعادة دمج ليبيا في المنتظم الدولي، ما دامت تتقيد بقواعده وتلتزم بقوانينه. ومهما يكن الأمر فإن قضية الممرضات البلغاريات والطبيب الفلسطيني ليست في النهاية سوى حدث رمزي يؤشر على رغبة ليبيا في التخلص من صورتها السلبية التي لاحقتها طيلة العقود السابقة، واستعداد الغرب لفتح أبوابه لاستقبال القادم الجديد وتشجيعه على توطيد المصالح المشتركة، حتى وإن كانت تتمسَّح بغطاء القيم الإنسانية أحياناً.