يلاحظ في هذه المرحلة من تاريخ الأمم، وجود واستمرارية العديد من النظم السياسية الاتحادية، فهل هناك ثقافة سياسية اتحادية سائدة في عالم اليوم؟ إن مصطلح -ثقافة اتحادية- يمكن أن يفهم في سياق التغيرات والمراحل التي تلم بأي مجتمع بشري ينتهج نظاماً سياسياً اتحادياً، وتتغير وجهات النظر في النظام الاتحادي وصيغة المؤسسية ببطء تحت تأثير عوامل عدة، هي القادة الكاريزميون والحركات السياسية الفعالة والنشيطة والمصالح التي تكمن وراء السماح باستمرار، أوالقيام باستبدال نمط معين من التنشئات السياسية، والمتغيرات والحقائق الاقتصادية والاجتماعية والدولية الجديدة المتواجدة في فترة زمنية ما، وتناقص دور الهيئات التشريعية كمبادر باقتراح القوانين والقواعد والنظم وصانع لها، وتحول مقترحات القانون وصناعته باتجاه المشروع الاتحادي والبيروقراطية الاتحادية. إن الطبيعة الاتحادية للنظام السياسي تتضح بشكل أكبر من الهيئة التشريعية الاتحادية خصوصاً في مستواها الأعلى من اتضاحها في الهيئة التنفيذية، ويتم تنظيم المصالح الوظيفية على أسس غير اتحادية. وقد تقوم جماعات المصالح المختلفة التي تمر نشاطاتها وتنظيمها عبر الحدود الداخلية وتتأثر بها سلباً عند محاولة تبديل العادات والتوجهات الاتحادية الأصلية، بطرق أكثر أهمية وجدية مما قد تقوم به معظم الأطراف السياسية المضادة تماماً للاتحادية. يمكن القول إجمالاً: إنه إلى الآن، لا تتواجد لدى دارسي النظم السياسية، مادة علمية كافية تسمح لهم بالحديث الجازم بوجود شيء يمكن قياسه علمياً يسمى الثقافة السياسية الاتحادية، وكل ما يمكن قوله مبدئياً، هو الإشارة المتحفظة إلى وجود ثقافة سياسية اتحادية عندما تنظر حكومات الأقاليم المكونة للاتحاد، إلى ورود التوجهات التي تتبناها الحكومة الاتحادية، على أنها واجبة التنفيذ دون أن تطرح تساؤلات أواعتراضات حولها. وحتى في هذه الحالة، فإن هناك تحفظاً عن أن ينشأ انطباع أولي بوجود دليل على بوادر ظهور إرث سياسي اتحادي، بغض النظر عن شكل النظام السياسي دستورياً. ولو أخذنا الهند مثالاً على هذه الحالة، فإن الثقافة السياسية تتبلور وتتضح وإن كان ذلك بشكل عفوي، ففي الهند يوجد شيء من الإجماع من قبل النخب السياسية في الأقاليم على النظر إلى العاصمة الاتحادية نيودلهي، لكي تتخذ القرارات في جميع الأمور المهمة أولاً، ثم بعد ذلك تبدأ الولايات والأقاليم بالسير على خطاها. إن جوهر الاتحادية يكمن في المجتمعات التي تتبناها وليس في البنى المؤسسية أوالدستورية المعمول بها، والحكومة الاتحادية هي الأداة التي يتم بواسطتها إيضاح وحماية المزايا الاتحادية للمجتمع. ويمكن الإشارة إلى وجود أشكال ومظاهر متعددة لتواجد ثقافة سياسية اتحادية، فيمكن الإشارة إلى العقيدة الاتحادية، وإلى وجود الشعور الاتحادي والكاريزما الشعبية الاتحادية، وإلى العوامل الاتحادية. وإذا ما نظرنا إلى أستراليا مثلاً، فإننا سنلاحظ أن الاتحادية الأسترالية ذات ثقافة سياسية اتحادية تتمتع بسبق من الناحية التاريخية على الترتيبات الدستورية الرسمية. والمقصود هنا، هو القول: إنه كان للولايات المكونة للاتحاد الأسترالي هويتها السياسية الخاصة قبل أن تشكل اتحاداً فيما بينها. وقد تكون هذه الحالة هي أيضاً بالنسبة لدولة الإمارات العربية المتحدة، حيث كانت للإمارات كلاً على حدة، هويتها السياسية الخاصة بها قبل قيام الاتحاد. وفي هذا النمط تنتظم فئات المصالح الرئيسية على أسس إقليمية قبل أن تقوم بتشكيل بنيتها الوطنية الفوقية، وتتم حماية مصالح تلك الفئات في ترسيخ وجودها على أسس اتحادية من خلال وجود كثافة سكانية عالية، ومصالح لأفرادها قائمة على أسس إقليمية راسخة تجعل من التوزيع الإقليمي للسلطة معنى أكثر إيجابية من ترك الاختلاف في وجهات النظر والمصالح بين الأقاليم يفعل فعله السلبي، خصوصاً عندما تقوم بعض الأقاليم بافتعال تلك الاختلافات في وجهات النظر بطرق مقصودة. ومن الاتحادات الناجحة في عالم اليوم، هو اتحاد الإمارات الذي قطع شوطاً طويلاً منذ إنشائه في عام 1971 في تكوين مؤسساته وصقل ثقافته السياسية، فشعب الإمارات لديه ثقافة اتحادية جديدة، وذلك ضمن الإطار العام لمسار دولته التي أنشأها، فالإمارات دولة اتحادية، ودستورها يعترف بوجود أجزاء مكونة لهذه الدولة هي الإمارات السبع. ويتم الاعتراف أيضاً بخصوصية الأجزاء المكونة للدولة الاتحادية، ولكنه يتم تشجيعها بقوة على التنسيق فيما بينها في سبيل خدمة أبناء هذا الوطن. وعلى ضوء الخطة الاستراتيجية التي أعلنت مؤخراً، يتضح أن الطموح كبير جداً للدفع بالدولة الاتحادية ومؤسساتها إلى الأمام ضمن أطر عمل واضحة ومخطط لها بإحكام، لكي تعود بالنفع على كافة العناصر المكونة للوطن الاتحادي. ونحن إذ نبارك هذا الطموح ونزكيه، ندعو أيضاً إلى تقوية الثقافة الاتحادية بين أبناء هذا الشعب، طمعاً في تقوية الاتحاد والدفع به إلى الأمام في المقبل من السنوات.