لقد مرت علاقات الولايات المتحدة بمنطقة الخليج منذ القرن التاسع عشر وحتى الوقت الحاضر بأربع مراحل أساسية، استمرت الأولى حتى الحرب العالمية الثانية وكانت المصالح الأميركية خلالها ذات توجه اقتصادي صرف تمثل في النفط. أما المرحلة الثانية، والتي تزامنت مع الحرب الباردة؛ فقد سادتها الاعتبارات الاقتصادية والاستراتيجية على السواء مثل النفط والحفاظ على توازن نسبي في النفوذ بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، ومنع التغلغل السوفييتي من الوصول إلى البحار الدافئة. ثم كانت المرحلة الثالثة في أعقاب الغزو العراقي للكويت، وتركزت في التواجد العسكري المباشر لحماية مصادر النفط من جانب، وضمان الأمن المطلق لإسرائيل من جانب آخر. أما المرحلة الرابعة والتي بدأت غداة هجمات 11 سبتمبر 2001، فقد غيرت تصور الولايات المتحدة عن الأخطار الإرهابية التي تهدد مصالحها، ودفعت بها إلى رفع حركة "طالبان" من الخدمة، وإزاحة نظام صدام حسين البائد، وشن حرب على البيئة التي أفرزت الإرهابيين، ومنع إيران من امتلاك سلاح نووي لا يكون تحت الإشراف الأميركي المباشر، وعدم القبول بتمرد أي نظام حاكم في المنطقة على السياسة الأميركية. لقد جاء الرئيس بوش الصغير إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة، على النقيض من أبيه، مبتدئاً لا يعرف الكثير عن أمور السياسة الدولية، ومن ثم فقد أحاط نفسه بفريق من المستشارين المتمرِّسين الذين اختطفوا السياسة الأميركية من واقعيتها وحماسها للتعاون مع الحلفاء والأصدقاء في منطقة الخليج، إلى جعلها إملاءات وتصرفات أحادية لا تهتم بمصالح دول المنطقة. وتتركز في الخليج العربي مصالح كثيرة للولايات المتحدة أمنية واقتصادية وسياسية، فعلى الجانب الأمني، أصبح الخليج العربي مرتكزاً أساسياً في الحرب على الإرهاب. واقتصادياً، نجد أن نمو الاقتصاد الأميركي أو عدمه يعتمد جزئياً على النفط القادم من الخليج العربي، ذلك لأن المملكة العربية السعودية والعراق هما أكبر دولتين تمتلكان احتياطياً نفطياً على مستوى العالم. وسياسياً، فإن لدول الخليج العربي دوراً مهماً في السياسة الإقليمية وحماية الأمن والسلام الدوليين، كما أن تعهد الولايات المتحدة بتحقيق الديمقراطية في العراق قد وضع مصداقيتها على المحك أمام العالم أجمع، وأي شيء أقل من هذا سينال من مكانة الولايات المتحدة أمام العالم. ولكن السلوك الأميركي الراهن في منطقة الخليج يثير سؤالاً مهماً: هل ما تقوم به أميركا في المنطقة يحقق المصالح المشتركة لدولها أم يضمن المصالح الأميركية فقط؟ بعبارة أخرى.. هل أميركا تتعامل مع دول الخليج العربية كدول حليفة وصديقة أم كدول تابعة عليها الالتزام بما تطلبه منها الإدارة الأميركية فقط دون اعتراض أو مساءلة، حتى لو كان المطلوب يؤثر في المصالح الحيوية لهذه الدول؟ فالتعامل الأميركي مع إيران يجري على ثلاثة محاور مختلفة ومتباينة، لم يكن لدول الخليج العربية، ولا يزال، أي دور أو علم أو تأثير فيها، حيث المحور الأول يرتكز على التهديد بعمل عسكري وتوسيع نطاق العقوبات الاقتصادية لإجبارها على إيقاف برامج إنتاج الوقود النووي، الذي يشير إلى اندفاعها لامتلاك سلاح نووي. وبالطبع لم تراعِ الإدارة الأميركية خصوصية العلاقات التجارية والاقتصادية والمالية والشعبية بين إيران ودول الخليج العربية، ولم تأخذ بعين الاعتبار المصالح الحيوية والاستراتيجية لهذه الدول عند اتخاذها قرارات التعامل القهري مع إيران. أما المحور الثاني فهو يتمثل في الحوار الدائر بين طهران وواشنطن بشأن العراق، في محاولة للحد من التدخل الإيراني في العراق وتغلغله العسكري، في مقابل ضمان أميركا قيام نظام حاكم في العراق لا يهدد إيران في أي وقت، وهذا يعني ضمنياً خروج العراق من معادلة التوازن الاستراتيجي في المنطقة ويكرس لخلل استراتيجي قادم لصالح إيران، فيما يعني أن الإدارة الأميركية تضرب عرض الحائط بالتهديدات التي تمثلها إيران الثورية لدول المنطقة وتكريس احتلالها للجزر الإماراتية الثلاث من جانب، وتصريحاتها المستفزة تجاه البحرين من جانب آخر، ناهيك عن التهديد العسكري المستمر للمياه الإقليمية لدول المنطقة في الخليج. أما المحور الثالث في تعامل أميركا مع إيران، فهو "الحوار" غير المعلن، و"التنسيق" المخفي مع ملالي إيران، بهدف الاعتراف بإيران كقوة إقليمية مقابل أن تظل "بعبع" الخليج ولا تؤثر في المصالح الأميركية في المنطقة، ومن أهم بوادره "الطناش" الأميركي على التمدد الشيعي، والتطهير الطائفي في العراق، وانتشار الأسلحة الإيرانية الصنع في أيدي المتمردين في العراق، وعدم مناهضة التوجهات الثورية الإيرانية لمساعدة "المستضعفين" من الشيعة في دول الخليج العربية سواء في اليمن أو البحرين أو المملكة العربية السعودية، والاعتداء على بعض دبلوماسيي دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، والتصريحات النارية باعتبار البحرين محافظة إيرانية، والنشاط العسكري الإيراني المحموم في مياه الخليج العربي، الذي يرتبط به تجنب إيراني صارم لتهديد القوات الأميركية في المنطقة، وعدم تجاوز الخطوط الحمر في تهديد الأمن الإسرائيلي، وبالطبع يأتي ذلك كله على حساب دول المنطقة، وقد يعني وجود اتفاقات سرية تجري صياغتها بين طهران وواشنطن لتحديد دور كل منهما ومناطق نفوذه لتحقيق المصالح المشتركة للطرفين. إن سياسات بوش الصغير تجاه منطقة الخليج العربي لم تؤتِ ثمارها، خاصة لصالح دول المنطقة، فيما عدا إيران. وعلى الرغم من الخسائر الأميركية على المدى القصير مثل ارتفاع النفقات والأعباء المالية والعسكرية التي صاحبت الحرب على العراق، إضافة إلى ارتفاع عدد القتلى والمصابين في صفوف القوات الأميركية، فإن مصداقية الولايات المتحدة من الناحية السياسية أصبحت في خطر، بعد أن فشل بوش الصغير في الوفاء بتحقيق الديمقراطية في العراق، وإعادة إعماره. وعلى المدى البعيد فقد رسخت الإدارة الأميركية برئاسة بوش مبدأ الشك وعدم الثقة في علاقاتها بدول المنطقة، ومدى حرص الولايات المتحدة على مصالح حلفائها وأصدقائها من هذه الدول، وأبرزت حجم الضعف الذي تعاني منه أجهزة الاستخبارات الأميركية في تحديد حجم التهديد وأبعاده الذي يواجه المنطقة. ومن المؤكد أن الخسائر البشرية التي تقع في صفوف القوات الأميركية ستلقي بظلالها السياسية على الوضع في الداخل، وإذا ما رضخ الرئيس القادم للولايات المتحدة، سواء كان ديمقراطياً أو جمهورياً، أمام الضغط الشعبي للانسحاب المبكر من العراق، فستغشى المنطقة حالة من الفوضى العارمة، ومن شأن هذه الفوضى أن توفر مناخاً وأجواءً مواتية لأسامة بن لادن وأتباعه، الأمر الذي يزيد من الأخطار الإرهابية ضد مصالح دول المنطقة من ناحية، والمصالح الأميركية في الداخل والخارج من ناحية أخرى. منذ نهاية الحرب الباردة، أصبح الشرق الأوسط بوجه عام والخليج العربي بشكل خاص يحتل مكانة أكثر محورية وأهمية بالنسبة إلى المصالح الأميركية، وهو ما دفع آخر ثلاثة رؤساء للولايات المتحدة لاستخدام القوة العسكرية في الخليج في محاولة لحماية تلك المصالح، ولكن لم تكن المصالح الحيوية للدول العربية في منطقة الخليج هي أساس العمل العسكري الأميركي. من المهم أن تقوم الإدارة الأميركية بإعادة النظر في علاقاتها بدول الخليج العربية من خلال التوصل إلى صيغة مناسبة للشراكة معها، والنظر إلى تفكيك نظام صدام حسين وعملية بناء العراق باعتبارهما خطوة أولية مفيدة وليس نقطة النهاية في الطريق إلى إحلال الأمن والاستقرار في المنطقة، والوقوف ضد التمدد الشيعي، والكف عن التعاطي مع الخليج كتابع عليه أن يلتزم بما يجري تخطيطه في واشنطن.