قد يفسر مثلٌ شائعٌ بين هواة رياضة الدراجات الهوائية لماذا فاتتني المشاركة في "طواف فرنسا". يقول المثل "الحياة كركوب الدراجة لا تسقط منها إلاّ عندما تتوقف عن تدوير عجلتها". وكنتُ قد توقفت عن تدوير عجلة هوايتي للدراجات مذهولاً بفضائح "طواف فرنسا" (تور دي فرانس) الذي يُعتبر من أعرق السباقات الرياضية وأكثرها تشويقاً. فهذا السباق الذي يستغرق ثلاثة أسابيع، يقطع مسافة ثلاثة آلاف و550 كيلومتراً، على عشرين مرحلة، نصفها تقريباً عبر أراض مستوية، والنصف الآخر جبلية أو شبه جبلية. وتبلغ سرعة الدراجات الانسيابية 30 كيلومتراً في الساعة خلال السباق الذي يشارك فيه 21 فريقاً، ويتكون كُلّ فريق من 9 متسابقين يتوزعون المهام والتكتيكات المختلفة، كصعود السفوح الجبلية، أو السَوق قرب المتسابق الرئيسي لحمايته من الرياح ومن مضايقة المنافسين، أو لسقيه الماء. يمرُّ "طواف فرنسا" في بعض الأعوام بأراضي بلدان مجاورة. حدث ذلك في افتتاح السباق يوم السابع من الشهر الماضي في قرية خط الطول البريطانية المشهورة جرينتش، ومنها انطلق موكب راكبي الدراجات الذي ضم عدداً من الأبطال المحترفين ومئات الهواة. ولا يقاضي "طواف فرنسا" مشاهديه ثمن التذاكر على امتداد آلاف الكيلومترات التي تتحول إلى مهرجانات حافلة بالألوان والبهجة والموسيقى والغناء، و"السباب" بمختلف اللغات! ويعتبر السباب دليلاً على مراس المتسابقين الذين يخففون بالسباب توتر مشاعرهم العدوانية ضد منافسيهم، أو يشدون به العزم عندما تنقطع الأنفاس على سفوح المرتفعات الجبلية! وانهال أكبر عدد من شتائم هذا العام على المتسابق الكازاخستاني "الكسندر فينوكوروف"، ونُزع عنه قميص القيادة الأصفر اللون، ونُّحي من السباق بسبب إخفاقه في اختبار تعاطي المنشطات. وواجه المصير نفسه المتسابق الهولندي "مايكل راسموسن" المرشح لبطولة الدورة الحالية. ودمّرت فضائح تناول المنشطات الثقة بالمباراة، وأثارت سُخط آلاف من هواة هذه الرياضة الجميلة. وأفسدت جو المرح والبهجة حملات البوليس الفرنسي لتفتيش غرف المتسابقين في الفنادق بحثاً عن المنشطات. وأضيف عدد آخر من المنازعات والاتهامات التي لم تحسم منذ حرمان الأميركي "فلويد لانديس" من بطولة عام 2006 بعد افتضاح تناوله لمنشطات هرمون الذكورة "تستوستيرون". وليس كمثل هواة رياضة الدراجات إيماناً بالمبدأ المتضمن في الحديث الشريف "من غشّنا فليس منّا". ومع أن مشاركة الآلاف منهم تقتصر على الطواف بدراجاتهم على هامش "الطواف" بين المدن والقرى الفرنسية، فإنهم أكثر غيرة على الرياضة من أبطالها المحترفين. فالفوز بأي ثمن يجلب للمحترفين الأموال ولذة الانتصار على الآخرين، بينما الفوز بالنسبة للهواة هو الفوز على الذات، ولذة مجاهدة النفس. وركوب الدراجات من أكثر أنواع الرياضة تواضعاً وقرباً للإنسان وللأرض. وعلى خلاف وسائل النقل الآلية الأخرى تقيم الدراجة علاقة حميمة للإنسان بين جسده والأرض التي تحمله، وتُشعر راكبها جسدياً بمزاج وملامح الأرض تحته، بنعومة سطحها، بتعرجاته ومنحنياتها ومرتفعاتها التي تقطع الأنفاس، وبمنحدراتها التي يشهق لها الجسد. وكالفارس على الحصان يشعر راكبُ الدراجة بالزهو عندما يعتليها مرتفعاً بنصف جسده فوقها، فيما تنشّد قبضته على المقود. وترهفُ الدراجة حاسة السمع لدى الراكب الذي يستطيع أن يميز بالصوت حجم السيارة خلفه، ويقدر مسافتها عنه من دون أن يلتفت ليراها. وتنشأ لدى راكب الدراجة غريزة المشاركة مع الآلة التي تظهر خصوصاً لحظة فقدان التوازن. رد الفعل الغريزي المعتاد لدى الإنسان عند تعرضه لخطر السقوط هو الالتفاف بجسده، والتوقي بذراعيه، والتخلي عن أيّ شيء آخر، وهذه خيانة سيئة المصير لمن لا يدرك التحام مصيره بمصير الدراجة. ويبدو أن هذا المصير يهدد أبطال الرياضة الذين خانوا بالمخدرات الدراجات، وقد يهدد "الطواف الفرنسي" نفسه. عبّر عن ذلك النعي الذي نشرته صحيفة "ليبراسيون" الفرنسية على صفحتها الأولى بعنوان: "موت الطواف". وبعد ذلك بيومين فاز العراق ببطولة كرة القدم الآسيوية، وبعث الأمل بإمكانية حدوث معجزة مماثلة قد تنقذ "الطواف الفرنسي". وأنا أؤمن بأن "لعبة كرة القدم كالحب، إذا لم تعاملها بجدية فلا متعة فيها، وإذا عاملتها بجدية قد تحطم قلبك". مع ذلك لم أتوقع قطُّ أن يعوضني فوز "كرة القدم" العراقية عن فشل "الطواف الفرنسي". وما كان ليخطر بذهني، حتى في أحلام اليقظة، أن يزيل أبطال كرة القدم العراقيون مهانة أبطال الدراجة العالمية. وبدا لي كالحلم منظر الاحتفال الجماهيري الحاشد في مدينة دبي بالمنتخب العراقي الفائز بكأس آسيا. وكيف لا تُشجي العراقيَ عباراتُ تكريم صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس دولة الإمارات، رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، للفريق العراقي الذي "أبرز قدرة الشعب العربي على تحدي الصعاب وتحقيق الإنجاز، وتقديم صورة مثالية للعطاء من أجل الوطن"؟ وهل يمكن مغالبة المشاعر التي أثارتها عاطفة الناس الفياضة من جميع البلدان العربية نحو العراقيين؟ من كان يتصور أن يأتي يوم يقسم فيه مواطنون سعوديون في برامج البث المباشر في الفضائيات العربية أنهم فرحون بفوز منتخب الكرة العراقي على منتخب بلدهم؟ وكيف لا يتحطم قلب الغارق في دماء أهله المسفوحة يومياً عند سماعه إعلان مشاعر الحب للوطن تصدر عن عراقيين سنة وشيعة، عرباً وأكراداً، وتركمان، ويزيديين، وصابئة؟ وقد أجهشت صدري استماتة عراقيين بسطاء في المبالغة بأهمية فوز منتخبهم ببطولة آسيا، واعتقادهم الساذج بأن "كرة القدم" ستحل مشاكل بلدهم وتحمل السلام لأهلهم. في مواقف كهذه يقبل الشخص ادّعاء معلق كروي مشهور بأن "كرة القدم ليست قضية حياة أو موت، بل هي أخطر من ذلك". وقد اجتذبت "خطورة" كرة القدم رجال أعمال ومغامرين أنشأوا شركات ومنظمات لاستثمار فوز العراقيين بالبطولة. تعلن هذه المؤسسات التي يحظى بعضها بدعم الاحتلال عن مشاريع لنشر السلام بواسطة كرة القدم، وقد أطلقت إحداها مشروع "طواف الأمل العراقي"، وبدأت بجمع تبرعات لشراء قمصان وكرات قدم لصبيان العراق، عملاً بمثل إنجليزي يقول: "لعبة كرة القدم بيزنس، والبيزنس بيزنس"! وأتوقع أن يثير "بيزنس" كرة القدم في العراق مفاجآت من النوع الذي يحتل أقدم الذكريات المحفورة في ذهني منذ الطفولة المبكرة. حدث ذلك عندما سجّل شقيقي الأكبر هدف الفوز في مباريات التصفية لمنتخب الجيش العراقي. كان شقيقي يلعب مع فريق "الصناعة العسكرية" ضد فريق "القوة الجوية" في ساحة الكشافة المشهورة التي كانت تعتبر الملعب الرياضي الرئيسي في بغداد. وأكاد أسمع الآن الصمت الرهيب للجمهور، حين سقط سروال شقيقي، وهو يهمُّ بقذف الكرة في مرمى "القوة الجوية". جمّدت المفاجأة حارسَ مرمى "القوة الجوية". وعندما انحنى شقيقي ليستر عورته انفجر الجمهور بالصراخ: "شَوِّتْ.. شَوِّتْ.. شَوِّتْ". كلمة "شوِّتْ" مُعَرّقة من كلمة "شُوتْ" الإنجليزية التي تعني "صوِّبْ". و"شَوَّتَ" شقيقي بسرواله هدف الفوز، وأصبحت الكلمة أهزوجة في فولكلور "الطوبة"، كما يسمي العراقيون لعبة كرة القدم!... فشَوِّتْ يا عراق... شَوِّتْ... شَوِّتْ... شَوِّتْ.