إن حالة الاستقطاب الشديد لا تميز فقط الوطن العربي حيث تنشب بين إسلاميين وعلمانيين في فلسطين بين "حماس" و"فتح"، وفي الجزائر بين "جبهة الإنقاذ" والدولة، وفي الصومال بين "المحاكم الشرعية" والنظام السياسي، وفي السودان بين الشمال والجنوب، وبين الشمال والغرب، وفي اليمن بين الحوثيين والدولة، بل هي تنشب أيضاً في العالم الإسلامي خاصة في باكستان كما دلت على ذلك المواجهة الأخيرة بين قوات الجيش وطلاب الجامع الأحمر في إسلام أباد الشهر الماضي. وتسيل دماء العرب والمسلمين كل يوم، مقاتلين وأبرياء، دينيين ومدنيين، حتى أصبح الدم العربي الإسلامي وكأنه رخيص. وخطورة الاستقطاب هي الوقوع في ثنائية متعارضة بين طرفين، يستبعد كل منهما الآخر، ثنائية الحق والباطل، والصواب والخطأ، والإيمان والكفر. لا يبقى طرف إلا بالقضاء على الآخر، في الفكر وفي الواقع، في الذهن وفي السلطة. فـ"الفرقة الناجية" واحدة بالرغم من تعدد الفرق، وأن اختلاف الأئمة رحمة، وأهمية التعددية الفكرية والسياسية. ولكل فريق من المتخاصمين المتحاربين من "الإخوة الأعداء" أخطاؤه. ومجموع الخطأين لا يكوِّن صواباً. والاختيار بينهما يزيد من كبِّ الزيت على النار، وشق الصف الوطني، وسفك الدماء، وشبح الحرب الأهلية. وهو منطق "إما ... أو" الذي ساد معظم الديانات الآسيوية، المانوية والهندوكية والزرادشتية ودين الصين القديم قبل كونفوشيوس. وأصَّلته الغنوصية التي دخلت معظم ديانات الوحي خاصة المسيحية في التقابل بين ملكوت السماوات وملكوت الأرض، ومقتضيات الروح ومتطلبات البدن، وفي الأديان السماوية في تقابل مشابه بين الدنيا والآخرة، بين الملاك والشيطان. والتعارض بين الفريقين ليس فقط كما يبدو في الظاهر صراع سلطة، بل هو صراع ثقافي بين رؤيتين متباينتين، "إما ... أو"، بين منهجين وأسلوبين في الحياة، لا حل له إلا بالحوار والتكامل، وتصحيح أخطاء كل فريق بمميزات الفريق الآخر، من أجل الوصول إلى الطريق الثالث الذي اشتقت أحد نماذج له تركيا ممثلة في "حزب العدالة والتنمية"، وماليزيا ممثلة في حزب "الآمنو". وهو ما تسعى إليه جميع حركات التجديد والإصلاح في المغرب في "حزب العدالة والتنمية". ويتمثل خطأ الإسلاميين، في السجال والاستقطاب المذكور، في الآتي: 1- جعل المسجد دولة داخل دولة، وسلطة داخل سلطة، وحكومة داخل حكومة، وهو طبعاً ما لا يقبله أي نظام سياسي، ديكتاتوري أو ديمقراطي، رأسمالي أو اشتراكي. صحيح أن هناك سلطات عديدة داخل الدول قد تتناحر فيما بينها، بين السلطة القضائية من ناحية والسلطتين التشريعية والتنفيذية من ناحية أخرى كما هو الحال في مصر. وقد تكون هناك سلطتان في الدولة، السلطة العسكرية والسلطة المدنية كما هو الحال في تركيا، ولكن هذه الازدواجية في السلطة لا تصل إلى حد الصراع العلني المفتوح وشق الصف الوطني. 2- صحيح أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب شرعي على العلماء. فالدين النصيحة. وهي الحُسبة، الوظيفة الرئيسية للحكومة الإسلامية كما قرر ابن تيمية وابن القيم. وهي وظيفة مشروطة بأن تكون من العلماء وليس من الطلاب، متفق عليها بينهم وليس عليها اختلاف، وبالحُسنى وليس بالعنف، ودون أن تأتي بمنكر أعظم من المنكر الذي تنهى عنه، ودون ملء المسجد بالسلاح، ووضع النساء والأطفال والشيوخ في أتون المعركة. ومن الأفضل أن يكون النصح جماعياً، (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)، وليس نصحاً فردياً أو لمجموعة صغيرة مذهبية أو عرقية مثل "جبهة علماء المسلمين". لذلك قُدم الإجماع على الاجتهاد في ترتيب مصادر الشرع الأربعة. وهناك عشرات الآلاف من المساجد مثل "المسجد الأحمر". والحركة الإسلامية ممثلة في البرلمان. وكان يمكن القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خلاله وبالوسائل الديمقراطية الشرعية، والكتابة بالصحف، وحشد الرأي العام، وليس بالسلاح بصرف النظر عن البادئ بالعنف. لذلك اقترح بعض علماء الأمة، وكرد فعل على استعمال العنف، إعادة ترتيب الوسائل الثلاثة للتغيير في الحديث الشهير، بالقلب ثم باللسان ثم باليد. وهي الطرق المتبعة في النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في خطب المساجد أولاً. ولا يمكن اختزال المراحل التدريجية الثلاث في مرحلة واحدة وهي المرحلة الأخيرة، والقفز فوق المرحلتين الأولى والثانية. 3- وفي المجتمعات الإسلامية في جنوب شرق آسيا تتنوع التركيبة السكانية والقبلية، وتتعدد المعتقدات الدينية والطوائف والمذاهب. فهناك البلوش والبشتون، والسُّنة والشيعة، والهنود والصينيون والملاويون. وطبقاً للشريعة الإسلامية، فكل طائفة تحكم بشريعتها مثل أهل الذمة، النصارى واليهود، وأضاف بعض الفقهاء المجوس والصابئة بل وعبدة الأوثان. وإذا أراق المسلم خمر الذميِّ وجبت عليه الدية أو التعويض. فلا تطبق الشريعة الإسلامية إلا على المسلمين. والحفاظ على وحدة الأوطان، مثل السودان، مقدم على تطبيق الشريعة الإسلامية على الجنوب. ومن ثم يخطئ من يمارس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا ما طبقه على غير المسلمين، مثل الصينيين الذين يقومون بالحمامات التركية والتدليك أو ما يسمى بالحمام التركي المنتشر في جنوب شرق آسيا. واحترام العادات والتقاليد والأعراف لغير المسلمين جزء من الشريعة الإسلامية "من آذى ذمياً فقد أذاني". 4- والخطورة أن يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مجرد ذريعة للصراع على السلطة، وممارسة المعارضة السياسية. والمسجد ليس مكانها. المسجد للحوار وليس للصراع، للنصيحة (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) وليس للقتال. المسجد سلطة معنوية وليس سلطة سياسية، حامٍ للقيم الإسلامية وليس مُنفِّذاً لها بالقوة. الصراع السياسي مكانه صناديق الاقتراع وأجهزة الإعلام والانتخابات الديمقراطية. ويخطئ الفريق الآخر، بعض الحكومات وأجهزتها، للآتي: 1- عدم الاستماع للنصيحة، والاستجابة لواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومواجهة الرأي بالرأي، والحجة بالحجة، والبرهان بالبرهان، وليس بالسلاح والحصار والمواجهة والقتل ورفض الحوار والوساطة، وإظهار حق الدولة على حساب قوة المجتمع. فالمسجد في الإسلام له مكانته ودوره التعليمي والرقابي على المجتمع. ومواجهة الدولة مع المسجد هي السيطرة الكاملة للدولة على المجتمع المدني. 2- استعمال الجيش في المعارك الداخلية مع الشرطة وأجهزة الأمن. وظيفة الجيش الدفاع عن أمن البلاد ضد المخاطر الخارجية وليس الدفاع عن طرف سياسي ضد معارضيه. الجيش مؤسسة مستقلة في البلاد، وليست أداة لطرف سياسي. فإذا ما تحول الجيش عن وظيفته وأصبح أداة قمع في الداخل، قتل الأب ابنه والابن أباه، والأخ أخاه وأخته، في ثقافة ريفية مازال الثأر فيها ممارسة شعبية. فيُقتل الأبرياء من الطرفين. وكلاهما ضحايا الصراع السياسي الذي يجعل المواطن يقتل المواطن، ويؤجج الاقتتال بين المواطنين. وقد يصل الأمر إلى الحرب الأهلية عندما ينقسم الشعب، كل قسم مع أحد الفريقين المتحاربين. 3- التجاذب أحياناً مع القبائل، كما هو الحال، على الحدود الطويلة الممتدة بين باكستان وأفغانستان. وهي قبائل واحدة على الحدود التي وضعها الاستعمار. وقد كانت القبائل عبر تاريخها هي الجانب المعنوي في حياة الأفغان والباكستانيين. والإسلام هو القوة السياسية الأولى في باكستان، وتيار شعبي عارم. لا يعاديه أحد بل يحاوره بجوار التيارات الليبرالية النخبوية الضعيفة. كان يمكن تكوين جبهة وطنية عريضة لمواجهة قوى الاستعمار الجديد والهيمنة الأميركية. الحوار مع الشعب وليس المواجهة معه، وفي الداخل ضد الخارج، دفاعاً عن التعددية السياسية والحوار الوطني للوصول إلى برنامج وطني عام يوافق عليه الجميع. الحوار وليس السلاح هو الحل بين الدولة وخصومها، بين النظام السياسي ومعارضيه، من أجل إيجاد طريق ثالث يجمع بين القديم والجديد، بين الدولة والشعب، بين الجيش والأمة، حتى تتحول الدولة والنظام السياسي من القهر إلى الحرية، وحتى تتحول الحركات الإسلامية من المحافظة إلى التجديد. وطريق تركيا وماليزيا وإندونيسيا وموريتانيا ممهد للجميع.