ليس من مصلحة دول الخليج أن تكمل إيران برنامجها النووي, كما لا يفيدها استمرار التشدد الإيراني في مواجهة الغرب, وكذلك استمرار السياسة الإيرانية المختلطة والمعقدة نحو العراق. لكن ليس من مصلحة دول الخليج ولا العالم العربي كله أن تصعد إدارة جورج بوش الصراع ضد إيران أو التخطيط لضربها عسكرياً ولا حتى ضربها اقتصادياً. والحصار السياسي والدبلوماسي هو أسوأ مناخ لحل الصراعات الاستراتيجية والثقافية الكبيرة. بل هو الطقس المثالي لنمو الفطريات وتضاعف عدم الثقة وازدهار التطرف والشعور المتبادل بالتهديد. وهذا كله يؤذي العرب والإيرانيين على المديين الطويل والقصير معاً. فإدارة جورج بوش سوف تذهب وسيتغير حكام إيران, لأن هذا منطق وناموس الحياة. أما ما يبقى فهو العلاقات بين الشعوب والمجتمعات. ويكفي أن يتكون لدى الإيرانيين انطباع بأن بعض العرب وافقوا أو شاركوا في ضرب إيران لكي تتعمق الحساسيات وتشتد حملات النقمة أو ربما الكراهية. وتبقى المرارات في وجدان الشعوب وعقولها عشرات السنين لتثمر حقولاً من الديناميت والحرائق. فماذا نفعل؟ مجرد طرح السؤال بجدية أمر إيجابي, فهو يلزمنا بالتدبر والتفكر في القضية، وكأننا نجتهد لحل مسألة رياضية أو هندسية, وهو ما يقود لاجتهادات متباينة ويدفعنا للتوفيق بينها أو للأخذ بالأفضل منها, وعندما يطرح الأمر على مستوى جماعي: خليجي أو عربي عام بقدر معقول من النزاهة والعقلانية والاستقلال الفكري تتفتح حلول يصعب الإحاطة بها إن كان الدافع لتفكيرنا هو الغضب أو الحنق أو المواقف المسبقة. ليس لدينا حل جاهز، بل مجرد بدايات لمناقشة أكثر جدية للقضية في هذا التوقيت بالذات. فلا يخفى أن ثمة تكهنات بتصعيد أميركي-إسرائيلي ضد إيران قد يحتشد وراءه الغرب كله وقد يصل في أسوأ الأحوال وفي إطار زمني قصير إلى عمليات مركزة ومكثفة لاستهداف إيران عسكرياً عبر قصف جوي يستهدف تدمير عدد كبير من المراكز العسكرية ذات الصلة بالمشروع النووي وربما غير ذات صلة. ويعنى ذلك أن يدفع العرب في الخليج ضريبة باهظة وليتها كانت ضريبة مؤقتة. فحتى لو نجح الأميركيون في تقويض بنى إيران النووية ومرافقها الأساسية، فلن يعنى ذلك سوى ترحيل التناقض والصراع وتثبيته على المدى الأبعد. أما على المدى القصير فمن المحتم أن تدفع دول الخليج ضريبة باهظة للغاية نتيجة للانتقام الإيراني الفوري فضلاً عن المؤجل. ويبدو لي أن من واجب دول الخليج تحديداً أن تبادر لتجنيب ذاتها مغبة هذا الاحتمال المرجح خلال الشهور الستة المقبلة. المبادرة التي أعنيها هي عمل شامل ومتناسق وقوي بما يكفي لحل أزمة الملف النووي والتوصل إلى رؤية مشتركة مع إيران لحل القضايا الرئيسية العالقة في المنطقة وعلى رأسها قضية العراق. وأتصور أن نبدأ بالتفكير في الجانب الإجرائي من هذه المبادرة، وذلك بالتفاوض بين خبراء متخصصين ثم ننتقل إلى المستويات السياسية الأعلى على الجانبين. ولكن هذا السيناريو معيب من حيث أن الخبراء عادة ما يحصرون تفكيرهم في الأطر السياسية المملاة عليهم من قياداتهم. فإن لم تكن لديهم تعليمات محددة بالتفكير الإيجابي البناء وبإحداث اختراق كبير، قد يملأون أجندة التفاوض الفني بإعاقات لا حد لها. ومن الأفضل أن تبدأ العملية الإجرائية بالمستوى السياسي الأعلى، على أن تنتقل على الفور، إن نجحت المبادرة السياسية الأولى، إلى المستويات الفنية المتخصصة لكي تصوغ برامج عمل وسياسات وتوجهات مواكبة لقرار سياسي بإحداث انفراج كبير في الأزمة. فإن نجحت في إنجاز هذا التكليف، نعود إلى المستوى السياسي بفعل أو خاتمة قوية تضع أسساً لمرحلة جديدة من العلاقات العربية الإيرانية. ويمكن أن تبدأ هذه المبادرة السياسية سرية أو علنية، كما يمكن أن تبدأ بدولتين خليجيتين إن تعذر الوصول إلى وفاق فوري حولها بأثر الفشل الذي لاقته مبادرات سابقة أصغر وأقل قوة. المهم أن تبدأ على المستوى السياسي ثم يترك للفنيين مهمة وضع صياغات دقيقة تترجم رؤية سياسية وثقافية أوسع نطاقاً وأكثر انفتاحاً على المستقبل. وحتى إن مشت المبادرة السياسية إلى منتصف الطريق دون أن تحقق اختراقاً، يكفينا أن نترجم التقدم ولو كان جزئياً في مؤسسة ما للتشاور الدوري المنظم. ومثلاً يمكن إطلاق "منتدى عربي إيراني" يصلح كإطار للقاءات بين القيادات على الجانبين. "المنتدى العربي الإيراني" الذي نقترحه يمثل طريقة لتبادل الآراء والتفاوض بين العرب والإيرانيين حول القضايا المشتركة, وربما يعقد مرتين في العام, بما ينشط التفكير المشترك ويفتح الباب أمام بناء علاقات جماعية ومنهجية بين إيران ومجلس التعاون الخليجي أو جامعة الدول العربية ككل. غير أن هذا المنتدى يجب أن يكون ثمرة لمحاولة أو مبادرة سياسية عربية قوية نحو إيران، تنشط لإيجاد حلول سلمية عاجلة أو على الأقل إبعاد شبح الحلول العسكرية. وما يجب أن يشغلنا أكثر في هذه المرحلة هو المضمون وليس الشكل أو الإجراءات، حتى وإن كانت الأخيرة مطلوبة ودالة بحد ذاتها. وترتيب هذه القضايا أمر على درجة كبيرة من الأهمية. فقد نبدأ بقضايا مادية محددة مثل العراق والملف النووي والجزر الإماراتية المحتلة ولبنان وفلسطين, وعلى العكس من ذلك قد نبدأ بصياغة تصور أو بالأحرى رؤية نلتزم بها عرباً وإيرانيين على المدى الطويل ثم نترجمها إلى سياسات أو مواقف مشتركة أو تعهدات متبادلة. ومن الأفضل أن نبدأ التفاوض على الفور حول أكثر القضايا إلحاحاً لأنها هي التي تقود إلى الأسوأ وعلى المدى القصير. فالتفكير السليم والشرع معاً يقدمان دفع الضرر على جلب المنفعة. غير أن الجميع يعلم من حكمة التاريخ أنه قد لا يمكن دفع الضرر إلا بجلب المنفعة, أو بالأحرى لا يمكن أحياناً وقف تدهور صراعات معينة دون أن يشكل ذلك مساراً جديداً يترجم رؤية بناءة نافعة للطرفين. ومن هنا تصبح البداية السليمة هي التفاوض على مسارين: تكوين رؤية مشتركة لبناء منطقة سلام ونهضة في الخليج أو بناء ما يمكن تسميته "خليج النهضة العربية الإيرانية"، وفى نفس الوقت التفاوض على حل سريع لأزمة الملف النووي يبعد شبح "الحلول العسكرية" الدولية أو الأميركية تحديداً. ويمكن تأجيل بقية القضايا حتى يحدث اختراق في هاتين المسألتين تحديداً. المهم في كل الأحوال أن نطلق عملية سياسية قوية تدفع كل الأطراف الخارجية للتريث ومنح فرصة حقيقية للسلام في المنطقة. يجب أن تكون هذه العملية السياسية قوية للغاية، ولو على المستوى الإعلامي بحيث تحدث الأثر المطلوب.