هل من الممكن للمرء أن يقلل من احتمالات إصابته بالسرطان من خلال تحسينات طفيفة في سلوكياته اليومية؟ وما هي التغيرات التي طرأت على حياة إنسان العصر الحديث، بحيث أصبح السرطان أحد الأسباب الرئيسية في وفاته؟ للإجابة على هذين السؤالين، لابد أن نبدأ باسترجاع الاتفاق العام بين أفراد المجتمع الطبي، على أن معدلات الإصابة بالأمراض السرطانية تشهد زيادة مطردة عقداً بعد عقد. وهذه الظاهرة، يحاول العلماء تفسيرها من خلال عدة نظريات، منها أن ما حدث هو في الحقيقة زيادة في كفاءة التشخيص، وليس في عدد الإصابات بحد ذاتها. أي أنه مع ارتفاع مستوى الرعاية الصحية في العديد من دول ومناطق العالم، ومع تطور التكنولوجيا الطبية، زادت دقة التشخيص والكشف المبكر عن الأمراض السرطانية. وهو ما يعني أن الزيادة في هذه الحالة زيادة نسبية، وليست زيادة حقيقية بالفعل. والتفسير الآخر المطروح، يربط بين ارتفاع متوسط العمر، وبين زيادة انتشار الأمراض السرطانية. فالمعروف أن هذه الفئة من الأمراض ترتبط بالعمر، فكلما زاد العمر زادت احتمالات الإصابة بالسرطان. وبما أن الجنس البشري برمته، يشهد ارتفاعاً مستمراً في متوسط عمر أفراده، يصل في بعض المجتمعات إلى حد التشيُّخ، فإنه كان من الطبيعي أيضاً زيادة وقوع الأمراض السرطانية بين أفراد تلك المجتمعات. والنظرية الثالثة، تتعلق بزيادة معدلات التلوث في الظروف البيئية التي أصبح يعيش فيها إنسان العصر الحالي. وهذا التلوث يمتد ليشمل الماء والهواء والغذاء، وتتنوع أشكاله وأسبابه، بدرجة تجعله عاملاً مهماً في اختلال ميكانيزمات التنظيم الداخلي للخلايا، ومن ثم تحولها إلى خلايا سرطانية. ومؤخراً أصبحت تطرح نظرية أخرى، مفادها أن أنماط وأساليب الحياة العصرية، حتى بعيداً عن التلوث والملوِّثات الكيميائية، أصبحت في حد ذاتها قوى مهمة، تؤثر سلباً على العمليات الفسيولوجية والبيولوجية للخلايا والأعضاء، لتحوِّلها لاحقاً إلى خلايا سرطانية، إلى درجة أن بعض الباحثين يعتقدون أنه من الممكن تجنب نصف جميع حالات السرطان، إذا ما تم تغيير أساليب الحياة العصرية بشكل صحي. وتتوجه أصابع الاتهام إلى سلوكيات حياتية محددة، كعوامل متهمة رئيسية خلف زيادة انتشار السرطان، مثل السمنة، والتدخين، والإفراط في تناول الكحوليات، وزيادة التعرض لأشعة الشمس. فعلى سبيل المثال، نجد أن سرطان الكلية وسرطان الرحم، المعروف عنهما ارتباطهما بزيادة الوزن، قد شهدا زيادة واضحة في انتشارهما خلال العقود القليلة الأخيرة، وهي نفس الفترة الزمنية التي شهدت ارتفاعاً مماثلاً في معدلات زيادة الوزن والسمنة بين أفراد العديد من المجتمعات والشعوب، إلى درجة أن النساء زائدات الوزن، تتضاعف لديهن احتمالات الإصابة بسرطان الرحم مقارنة بالنساء الطبيعيات، بسبب زيادة هرمون الإستروجين لديهن. ومؤخراً أثبتت مجموعة من العلماء الأميركيين أن بعض المواد الكيميائية التي تفرزها الخلايا الدهنية، تحفِّز الخلايا المسببة لسرطان القولون على النمو بشكل أسرع. فمن خلال دراسة أجراها علماء جامعة كاليفورنيا بسان دييجو، ونشرت في إحدى الدوريات الطبية المرموقة (The British Journal of Surgery)، ظهر أن هرمون "اللبتين" الذي تفرزه الخلايا الدهنية، يعمل كمحفز ومنشِّط للخلايا السرطانية المُسببة لأورام القولون الخبيثة. وهو في رأي العلماء، ما يمكن أن يفسر الملاحظة المعروفة بأن الأشخاص المفرِطين في زيادة الوزن، ترتفع لديهم بشكل كبير احتمالات الإصابة بسرطان القولون، وبمقدار الثلاثة أضعاف مقارنة بالأشخاص متوسطي الوزن. وأخذاً في الاعتبار أن السمنة مرض ينتج عن أسلوب حياة خاطئ، يتميز بالإفراط في الأكل والابتعاد عن ممارسة التمارين الرياضية، فإنه يصبح من الممكن تجنب جزء كبير من الأمراض السرطانية التي تنتج عن السمنة، من خلال تغيير أسلوب الحياة الخاطئ هذا، إلى درجة أن العلماء يقدِّرون أن خفض الوزن بمقدار عشرة كيلوجرامات فقط، يقلل من احتمالات الوفاة بسبب السرطان بنسبة 40%. وإذا ما انتقلنا إلى عامل التعرض اليومي لأشعة الشمس، فسنجد أنه في بريطانيا مثلاً منذ منتصف عقد الثمانينات، زادت معدلات الإصابة بسرطان الجلد بمقدار الضعف بين النساء، وبمقدار ثلاثة أضعاف بين الرجال. ومن بين هؤلاء، زاد أخطر أنواع سرطان الجلد أو الميلانوما (Melanoma) بنسبة 40% خلال العقد الأخير فقط. وهذا الواقع المؤسف يعزوه العلماء إلى زيادة التعرض الاختياري لأشعة الشمس، من خلال حمَّامات الشمس، أو خلال إجازات الصيف. وإذا ما انتقلنا إلى التدخين، فحدِّث ولا حرج. فبخلاف تسبب التدخين في 80% من حالات سرطان الرئة، يلاحظ الأطباء زيادة مطردة في حالات سرطان الفم الناتجة أيضاً عن التدخين. وهذا النوع الأخير من السرطان، تقع أيضاً مسؤولية زيادة عدد حالاته على تناول الكحوليات. فالمعروف أن تناول الكحوليات، حتى ولو كان بمقادير معتدلة، يتسبب في الإصابة بعدة أنواع من سرطان الرقبة والعنق مثل سرطان الفم، بالإضافة إلى سرطان الثدي بين النساء. ومن خلال هذه الحقائق جميعها، لابد وأن نصل لاستنتاج مفاده أن الإصابة بالسرطان ليست قدَراً محتوماً، بل هي في جزء كبير من الحالات نتاج سلوك حياتي خاطئ، يستغرق في ملذات الحياة العصرية، مثل الإفراط في الأكل، والاستغراق في حمَّامات الشمس، والتدخين، وتناول الكحوليات، ودون أن يضع أي اعتبار للتأثير الفادح لهذه العوامل على التوازن الداخلي للجسم من أجهزة وأعضاء وخلايا.