"سداسي بنغازي" مسمى كان يطلق على الممرضات البلغاريات الخمس والطبيب الفلسطيني، الذين حكمت عليهم ليبيا بالإعدام بسبب التهم التي وجهت إليهم بالتسبب في نشر فيروس الإيدز بين أطفال كانوا يقيمون في مستشفى ليبي، والذين تم الإفراج عنهم في يوليو المنصرم. وقد ركزت وسائل الإعلام العالمية الساعية للعثور على تفسير للإفراج عن الممرضات والطبيب يُنسب فيه الفضل في ذلك الإفراج للغرب على دور "سيسيليا ساركوزي" زوجة الرئيس الفرنسي الجديد، التي شاركت في المرحلة الأخيرة من المفاوضات التي جرت بشأن هذا الموضوع. بيد أن الإثارة الحقيقية ليست في موقف فرنسا المؤثر ولا في قدرتها على الحركة السريعة (والتي تمكنت من خلاله من الحصول على صفقة مغرية لتوريد السلاح لليبيا)، كما أنها لا تكمن في المحادثات المطولة التي شملت بلغاريا والمفوضية الأوروبية ونجل القذافي الموهوب "سيف الإسلام"، وإنما تمثلت تلك الإثارة في أن الإفراج عن الممرضات والطبيب يؤشر في جوهره الى تغيرات عميقة في النظام الليبي، وهي تغيرات كانت قد بدأت عام 2003 عندما تخلت ليبيا عن برنامجها النووي طوعاً، وتستمر حالياً من خلال تحولات تدريجية في الحكومة والاقتصاد والمجتمع المدني، وهي تغيرات يتم تجاهلها في الغرب إلى حد كبير. والمهندس الحقيقي لعملية الإفراج هو الزعيم الليبي نفسه، فالقذافي الذي كان ينظر إليه في الغرب حتى وقت ليس بالبعيد على أنه حاكم مستبد أثبت أنه صاحب فكر مركب، ولديه القدرة على التكيف وتغيير الاتجاه عند اللزوم، وقادر على أن يكون في الوقت ذاته حاكماً كفؤاً إذا ما وجد نفسه آمناً من الضغوط. وبخلاف أي حاكم عربي آخر تقريباً، يمكن القول إن القذافي قد أظهر قدرة استثنائية على إعادة النظر في دور بلاده في عالم متغير. وأنا أقول هذا من واقع خبرتي في إجراء العديد من المناقشات الفردية مع القذافي على مدار العام الماضي. في تلك المناقشات قال لي القذافي مراراً وتكراراً إن ليبيا قد سعت إلى تحقيق تقارب حقيقي مع الولايات المتحدة، وأن موضوع "سداسي بنغازي" وموضوع الدفعات النهائية الليبية التي لا تزال مستحقة لأسر ضحايا طائرة لوكيربي سيتم حلهما -وهو ما سيبدو أنه سيتحقق بدليل الإفراج عن الممرضات. وفي كافة مناقشاتي العامة والخاصة مع القذافي بما فيها تلك التي تمت في إطار المائدة المستديرة التي لعب فيها "ديفيد فروست" دور الحكم، وتم تصويرها بواسطة "بي.بي.سي" في شهر مارس الماضي، أجاب القذافي خلالها على أسئلة غير معدة سلفاً، واعترف فيها بتاريخ ليبيا في معاداة الغرب، كما لم ينكر تورط ليبيا سابقاً في الإرهاب، وتحدث خلالها أيضاً عن فصل جديد بالنسبة لبلاده، ثم دعم كل ذلك بالتعهد بإجراء تغيير مجتمعي والتأكيد بأن ليبيا من بعده لن يكون لديها قذافي آخر بل حكومة ذاتية. وليس هذا محض جعجعة، بدليل أن القذافي قد تحمل مخاطر جسيمة باسم التغيير، عندما هاجم المسؤولين في بنغازي الذين خططوا لعملية القبض على الممرضات، وعندما تخلى قبل ذلك عن برنامجه النووي في الوقت الذي لا تزال فيه الدول المارقة مثل إيران وكوريا الشمالية تستخدمان برامجهما النووية لابتزاز الغرب، وعندما أجرى مناقشات مفتوحة على مدار العام الماضي مع المثقفين الغربيين، ليس التقدميين منهم مثل "روبرت باتنام" الأستاذ بجامعة "هارفارد" فقط، وإنما أيضاً مع المعلم الروحي للمحافظين الجدد "فرانسيس فوكوياما"، ومع المدافع الصلب عن الديمقراطيين الجدد الخبير "جوزيف ناي". إلى ذلك، وفي إطار سعيه لتطوير الصناعة المصرفية والاقتصاد في ليبيا، لم يتردد القذافي في انتقاد النخبة الحالية فيها عندما وصفها بأنها تستفيد من الوضع القائم. فضلا عن ذلك سمح القذافي الذي كان يخشى وسائل الإعلام الأجنبية، باستخدام الأطباق الفضائية في مختلف أنحاء البلاد، بل والإبحار في شبكة الانترنت. إن ليبيا تحت حكم القذافي قد انطلقت في رحلة ربما تجعلها أول دولة عربية تتمكن من التحول سلمياً -ودون تدخل مكشوف من الغرب- إلى دولة مستقرة غير مستبدة، على أن تتحول بعد ذلك، وفي الوقت المناسب، إلى دولة يحكمها دستور نابع من البيئة المحلية، يجمع بين الديمقراطية المباشرة محلياً، وبين الحكومة الكفؤة مركزياً في آن معاً. مثل هذه الفكرة قد تبدو سخيفة في نظر المراقبين الغربيين الذين لا يتذكرون سوى ماضي القذافي المتمرد، والعمل الإرهابي البشع الذي وقع فوق قرية لوكيربي الاسكتلندية.. ولكن يجب علينا ألا ننسى أن القذافي هو أيضا الرجل الذي كتب مانفستو ديمقراطيا مباشراً (الكتاب الأخضر) في سبعينات القرن الماضي، وأنه عقد مئات من المؤتمرات الشعبية التي كان المواطنون الليبيون من الجنسين يلتقون فيها بشكل منتظم على مدار الثلاثين عاما الماضية. وهنا قد يتساءل سائل: هل كان المشاركون في تلك المؤتمرات يمتلكون أي سلطة فعلية؟ والجواب: لا. وقد يتساءل آخر: وهل يمكن البناء على تلك التجربة؟ والجواب: نعم. إن لدى الولايات المتحدة في الوقت الراهن، بعيداً عن الرادار، ومن دون أن تنفق دولاراً، أو ترسل جندياً واحداً، الفرصة كي يكون لها شريك في دولة يمكن أن تتحول إلى ديمقراطية عربية بازغة تقع في منطقة الوسط من الشمال الأفريقي. وهذا الشريك يمتلك غازاً نظيفاً، وموارد بترولية غنية، وخطا ساحليا لم يمس مطلا على البحر المتوسط، وسكانا مسلمين غير متعصبين، وقدرات استخباراتية، يمكن أن تكون ذات أهمية بالغة في الحرب على الإرهاب. المتشككون سيتجاهلون كل ذلك بالطبع، ولكن بعد التجارب الأميركية "الواقعية" في العراق وأفغانستان وباكستان، فإن ذلك تحديدا هو الذي قد يتبين في نهاية المطاف أنه يمثل وصفة للسلام والشراكة في مكان كان يعتبر آخر الأماكن التي كان يحتمل فيها حدوث ذلك. بنيامين آيه باربر زميل رئيسي بمركز "ديموس" وهو مركز دراسات وأبحاث عن الديمقراطية مقره نيويورك. ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"