هناك بديهيات سياسية يلاحظها المرء في السيرة الذاتية لأميركا خلال أكثر من مائتي عام وهي أقرب إلى الثابت الاجتماعي منها إلى المتحرك السياسي، مع عدم الخلط بين الأمرين لأنهما واضحان لكل متابع منصف لمجريات الأحداث التي تقوم أميركا بصناعتها في العالم. نناقش هنا البديهية التي تنص على أن أميركا لم تنشأ فرداً، ولن تصير إلى ذلك، لأن الضمانات والحصانات التي تحيط بها داخلياً قوية إلى درجة أن تناوب الرؤساء من حولها لم يزعزع لديها تلك الخصلة. والدليل على ذلك يأتي من أهل الدار في أميركا من المناهضين على طول الخط لسياستها الخارجية على وجه الخصوص، إلا أن المتفحص والقارئ لما بين صدور وسطور هؤلاء يخرج بنتيجة دامغة بأن هؤلاء قلوبهم على أميركا أولاً مهما كان سياق الحديث قاسياً على الحكومات الأميركية المتعاقبة على مدار التاريخ، وكل ما يقال يصب في النهاية لصالح أميركا الأم التي لا تفرق بين أبنائها في العطاء ولو كان البعض منهم مشاغبين أو خارجين عن الخط العام للمجتمع، فهي القادرة دائماً على إرجاعهم إلى دفء الحضن الذي يسع الكل بدون تمييز. لو بقي من أميركا هذا الجانب لكان تفوقها على منافسيها تتحدث به الركبان من على ظهور الجمال وحاملات الطائرات. والإشكالية هنا تنبع من أن بعض الكتاب في العالم الثالث يتحدث أحياناً بلغة ثالثة لا تعرف ماذا يراد من هذه الدولة (العظمى) في العالم، ففي الوهلة الأولى يُظن بأن المطلوب منها هو حل كل المشاكل العالقة منذ بداية التاريخ دون أن يكون لسكان هذا العالم النائم أي دور في عملية التغيير نحو تعزيز إنسانية الإنسان. والأخطر في هذا الطرح كله أن إسباغ موروثات حكم الفرد وحكم الجماعة والديكتاتوريات المشهود لها بالوفاة تدريجياً وإن كان جزء منها لازال في حكم المحتضر أو المنتحر ببطء إلا أن الناتج لا يمكن النظر إليه في سلة واحدة، ومن يؤمن بذلك يقع في إشكالية أخرى مفادها أن بداية الرأي حول أميركا تناقض خاتمته أو العكس. أميركا لم تكن في يوم من الأيام (بوشا) أكبر أو أصغر فهي دائماً مؤسسة راسخة تنتج أحياناً من أمثاله أزواجاً ولكن لأن دورات تأثيرهم قصيرة نسبياً فإن الميزان يعود تدريجاً لصالح أميركا الدولة التي عانت من وحشية الاستعمار البريطاني ولم تمارس هي ذات الدور مثل أي دولة أخرى كردة فعل على معاناتها، أما ما يحدث اليوم في العراق وأفغانستان وغيرهما من البقع الساخنة فإنه من التعقل ألا يربط بالتاريخ الديمقراطي لأميركا، فهو لا زال ناصعاً وإن خالطها بعض الشوائب المتناثرة في العالم من حولها. إن أميركا مقارنة بقريناتها في أوروبا وآسيا لم تتراجع ديمقراطيتها الممأسسة، بل نجد هذا النهج ساري المفهوم في المجتمع الأميركي الذي بدأ يخشى بنفسه على هذا المكتسب الجوهري الذي أخرج الولايات المتحدة الأميركية إلى الوجود الحقيقي بعد أن كانت مدفونة في عمق الحروب الأهلية والعنصرية وغيرها من الآفات التي سيست في فترات متقاربة من حياة الشعب. إلا أن الأهم من كل ما ذكرناه هو أن أميركا لم تتحول رغم التحديات التي تواجهها من قبل الإرهاب العالمي، ومع ذلك لم تختر نموذج الفرد المتسلط والمستبد بقدرات الشعب الأميركي الذي يملك صلاحيات كافية لإزاحة بوش وأمثاله من سدة الحكم بفارق صوت واحد ضدهم، أما مقارنة ذلك كله بالعالم الثالث فإن الإنصاف قد يضل طريقه إلى الوجود.