آلة الزمن... معنا أم ضدنا؟!
هل يقرصك الندم على فرص ضيّعتها في الماضي؟! هل بينك وبين نفسك تتمنى لو عاد بك العمر إلى الوراء، لتشطب مواقف حزينة من ذاكرتك، أو لتمحو تصرفاتٍ طائشةً قمتَ بها؟! هل عبارة "قول للزمان يرجع يا زمان" التي كانت تشدو بها سيدة الغناء العربي "أم كلثوم" ضمن أغنيتها الشهيرة "أروح لمين" لم تعد أمنية مستحيلة، وأن بالإمكان تحقيق هذه المعجزة في الغد القريب؟! لو قال لك أحد: إن الماضي من الممكن أن تعود إليه بزر تقوم بتدويره، هل تصدقه أم تعتبر كلامه ضرباً من الجنون؟!
يتردد في الأوساط العلمية أن العلماء عاكفون على تحويل هذا الخيال العلمي إلى حقيقة على الأرض، وأن الإنسان بإمكانه العودة إلى الماضي عن طريق آلة الزمن. وقد سألتُ نفسي: لو أتيحت لي هذه الفرصة، هل سأختار قدر الكتابة بكل ما تخلله من مصاعب؟! هل سأطرق نفس الأبواب، وأسلك نفس الدروب، وأهدم نفس الأسوار، وأتسلّق نفس الصخور؟! أم سأحرص على الابتعاد عن المناطق الملغومة التي جرحتني وتركت ندوباً على جسدي، وأتفادى رؤية الأشخاص الذين خلّفوا آلاماً في أعماقي؟!
علّقت واحدة من صديقاتي على الخبر: كم أحنُّ إلى طفولتي. أريد أن أعود إليها، أمرح، أضحك، أتصرّف على سجيتي، أضع رأسي على الوسادة دون هموم، أتحرر من كافة مسؤولياتي، أنام قريرة العين. وقالت أخرى: لو قُدّر لي أن أعيش لأرى هذا اليوم، سأرسم حياتي بطريقة مغايرة، تختلف اختلافاً جذريّاً عن معيشتي الحالية!
تُرى هل نحتاج إلى برمجة الماضي كي نعيد ترتيب حياتنا؟! أؤمن بأن العاجزين والفاشلين هم الذين يرمون حمولة أعبائهم على الظروف، معتقدين أن الزلات والهفوات التي ارتكبوها في الماضي، هي التي أوصلتهم إلى محطات بعينها ليسوا راضين عنها! بعكس الناجحين الذين يتباهون طوال الوقت بإنجازاتهم، ولو سألتهم إن كانت لديهم رغبة في العودة إلى الماضي، لأجابوك بأن الحاضر أجمل لكونهم يستمتعون بقطف ثمار كفاحهم الطويل.
لا أعرف لماذا يهدر العلماء وقتهم في تشغيل آلة الزمن؟! هل لأن الإنسان بطبعه فضولي يحب النبش في صناديق الماضي، ليرى بناظريه الأحداث المشوقة التي قرأ عنها في كتب التاريخ، أم يعود لعدم رضاه عن حاضره، وأمنيته الملحة في العودة إلى ماضيه لتغيير مسار حياته، والابتعاد عن الهفوات التي تعثّر فيها؟!
نحن لسنا بحاجة إلى آلة زمن لكي نُعيد ترتيب حياتنا، فالحياة من الممكن أن نُقلبها في أيدينا كيفما نريد، إذا تعاملنا معها ببساطة ومن دون تعقيدات ولا مراهنات. والسفر إلى الماضي ليس حلاً، بل الحل في جعل تجارب الأمس متراساً واقياً، يفك شفرة القادم المجهول.
لا تحصر تفكيرك في إمكانية العودة إلى الماضي، لكي تُصحح أخطاءك، وتُعيد النظر في قراراتك، أو لتمحو من ذاكرتك أشخاصاً خذلوك بمواقفهم السلبية، أو لتطمس من دليل هواتفك أسماء خيّبت ظنّك، تأكد أن التجارب القاسية تُصقل شخصية المرء وتزيده صلابة. وكل درس مؤلم تجرعته من الأيام، منحك قوة داخلية جبّارة لمواجهة انتكاساتك. وكل من جعلك تذرف الدمع من مقلتيك، نقّى عينيك من الأتربة وجعلها أكثر صفاء. ضع نصب عينيك أن من سدّد طعنة غادرة لظهرك، رفع من مناعة جسدك ولقّنك درساً لن تنساه، أن الناس معادن متباينة فيها النفيس والطيب وفيها المزيّف والشرير.
رأيتُ على شاشة التلفاز امرأة حصلت على الشهادة الجامعية وهي في الواحدة والتسعين من عمرها، وكان الفرق بينها وبين زملائها عقوداً من الزمن، لكنها لم تستسلم لشيخوختها، ولم تخجل من تجاعيد وجهها، ولم تتردد على لسانها عبارة ليت الماضي يعود لكي أحقق ما أصبو إليه، ولم تتبرّم من الظروف والناس والأشياء، بل جلبت الماضي إلى حاضرها رغم أنفه وجعلته نصب عينيها. إنها وقفة اختبار مع الحياة لا تحتاج لآلة زمن، بل إلى تحقيق معادلة التوازن داخل نفوسنا، بمعنى أصح التعامل بفن مع مقدراتنا.