كان النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية ولنصف قرن واضحاً؛ فخارطة العالم سهلة، بين مناطق نفوذ أميركية وأخرى سوفييتية، معسكر شرقي وآخر غربي، خطوط التماس واضحة، والوكلاء المحليون معلومون. كان لدول العالم أكثر من خيار، وكان للحروب أكثر من إطفائي، لكن الولايات المتحدة حسمت سباق التسلح لمصلحتها بانهيار الاتحاد السوفييتي، وهي الآن تسابق نفسها ممتلكةً ترسانة عسكرية غير مسبوقة، واقتصاداً قوياً ونموذجاً منتصراً معولماً دخل معه النظام العالمي العصر الأميركي، فالولايات المتحدة أصبحت اللاعب الوحيد على الساحة الدولية، فالأزمات الدولية تنتظر رأياً أميركياً أو دوراً أو تدخلاً، أو حتى تجاهلاً، ودول العالم تراهن على الحلول القادمة من واشنطن وليس نيويورك (الأمم المتحدة)، أصبح الظل الأميركي حاضراً في كل مكان في كل الأزمات، وبدلاً من تعزيز التنظيم الدولي ممثلاً بالأمم المتحدة وهيئاتها ومنظماتها ودعم أدوارها، أصبح تجاهل أدوارها المفترضة سياسة أميركية تعززت عبر الإدارات المتعاقبة في البيت الأبيض. بالإجمال أدى تفجير النظام السابق إلى خلخلة التوازنات الدولية والإقليمية والوطنية دون أن يؤدي لخلق نظام دولي مستقر. اتسمت التحليلات السياسية والدراسات الاستشرافية للنظام الدولي في القرن الحادي والعشرين بالاستقطاب والمزج بين التفاؤل المفرط والتشاؤم، فتحليلات الوضع الدولي القائم في ضوء نهاية الاتحاد السوفييتي، وانتهاء الحرب الباردة، وتهاوي جدار برلين ومعه دول حلف "وارسو"، وأفول نجم روسيا وريثة الاتحاد السوفييتي، وعدم ظهور قوى عظمى توازي وتنافس الولايات المتحدة، تحدثت عن القرن الأميركي، وعن قوى عظمى متوحدة، تفرض سياساتها الاستراتيجية، وتحدد الدول بخياراتها، فيما صبت التحليلات المتفائلة بأن النظام الدولي يمر بمرحلة انتقالية تنفرد فيها الولايات المتحدة بالنظام الدولي لفترة محدودة، تنشأ خلالها قوى كبرى تنافس الولايات المتحدة على إدارة النظام الدولي، مراهنين على صعود نجم الصين من ناحية والوحدة الأوروبية أو عودة روسيا لتلعب دورها على الساحة الدولية من جديد، من ناحية أخرى. واتفقت التحليلات على أن سياسات الحرب الباردة والاستقطاب الدولي، وحتى في سيناريو النظام الدولي متعدد القوى، لن تمارس شروطها على دول العالم. اليوم وبعد ما يزيد على عقد ونصف من الانفراد الأميركي بالنظام الدولي، عادت الأصوات الأكاديمية والسياسية تتغزل في الحرب الباردة وأيام الحرب الباردة، فهل تكون عودة الحرب الباردة أكثر أماناً وتنظيماً للعالم؟ وهل يملك هذا الطرح أرضية؟ فهل النظام العالمي الحالي هو نظام القطب الواحد أم أن النظام يمر بمرحلة انتقالية نحو نظام دولي متعدد الأقطاب؟ وهل تستطيع أي من الأقطاب الدولية المحتملة استعادة حالة التوازن العالمي وإعادة تنظيم العالم بعيداً عن الهيمنة الأميركية على النظام الدولي؟ يواجه النظام العالمي اليوم جنوحاً أميركياً غير مسبوق لاستخدام القوة أو التهديد بها في كافة الأزمات والصراعات الدولية، إذ قطعت الإدارة الأميركية الحالية الطريق على أي مفاوضات أو تدويل للمشاكل والأزمات، إلا بما يخدم سياساتها وتفردت بالقرارات مستبعدة حتى حلفاءها التقليديين كأوروبا، وبالنظر إلى السياسات الأميركية منذ حرب الخليج الثانية، بدا واضحاً أن الإدارة الأميركية في قيادتها للعالم تستعيد في ممارستها نموذج السيطرة الاستعمارية الفجة دون أن تدرك أن مسؤولية القيادة الدولية تتطلب الفهم العميق للمشاكل والأزمات الدولية والمشاركة الإيجابية في حلها بتحجيم الأزمات لا خلقها، وتلك إشكالية متعاظمة لانعكاساتها على كافة الشؤون الدولية، وبدا واضحاً أن مفهوم القيادة الأميركية لعالم يواجه إشكالية معرفية لدى الإدارات الأميركية لكون هذا المفهوم ينحصر في القدرة الأميركية على ضمان المصالح القومية، وهو مأزق إستراتيجي خطير وقعت فيه الإدارة الأميركية في ممارستها لدور الفاعل الوحيد والمنظم الرئيسي للعلاقات الدولية. في ذات الوقت، فإن الحديث عن نظام دولي متعدد الأقطاب لا يزال حديث تفاؤل لا يستند إلى أرضية قوية، وإذا أخذنا بعين الاعتبار الأقطاب المحتملة، نجد أن روسيا أولاً ومنذ الانهيار المدوي للاتحاد السوفييتي، فقد قلَّم العقد الماضي هيبتها، وإن احتفظت بوضع الشريك لترسانتها النووية وقدرتها على المشاكسة والإقلاق، وعلى الرغم من كبواتها الاقتصادية، فإنها تحاول أن تستعيد أدوارها العسكرية بتكثيف حضورها العسكري من خلال المناورات العسكرية المتوالية وإعلانها عن قدراتها العسكرية، إذ أجرت روسيا في 30 مايو الماضي تجربة ناجحة، عشية انعقاد مؤتمر الدول الثماني، اطلقت خلالها صاروخين عابرين للقارات بهدف التذكير بأهمية المفاوضات حول سياسة التسلح، وأعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين استئناف سلاح بلاده الجوي القيام بإرسال طائراته القاذفة بمهام طويلة المدى في الأجواء الدولية، قائلاً: إن "وقف مثل هذه العمليات منذ انتهاء الحرب الباردة قبل 15 عاماً، قد أثر على الأمن الروسي لأنه "لم يحذ الجميع حذو روسيا"، في الوقت ذاته تشترك القوات الروسية في مناورات مشتركة مع الصين في الأراضي الروسية، رغم كل ذلك، فروسيا لا تستطيع التحول مجدداً لتنافس الدور الأميركي. أما عن القطب المحتمل الثاني وهو دول الوحدة الأوروبية ككتلة سياسية واقتصادية واحدة نظر إليها المحللون الأكثر تفاؤلاً كقطب مواز وموازن للدور الأميركي في العالم إلا أنه وبالنظر إلى أن العلاقات بين ضفتي الأطلسي، تؤطرها علاقات تاريخية واتفاقيات اقتصادية وسياسية وعسكرية ترافقت على الدوام مع حساسيات أوروبية من الهيمنة الأميركية الكاملة على شؤون القارة الأوروبية وفي ذات الوقت التخوف من الانسحاب الأميركي من الشؤون الأوروبية في علاقة فريدة من التجاذب والتنافر، فالدول الأوروبية كلما سعت للفرار من الظل الأميركي المهيمن على حلف "الناتو"، ترجع من جديد تحت ظل العباءة الأميركية، والدرع الصاروخية الأميركية الجديدة مثال صارخ على الهيمنة العسكرية الأميركية على القارة الأوروبية في ظل حقائق أمنية لا تقبل النقاش بأن الأهداف المعلنة للدرع الصاروخي المزمع إنشاؤه لا تمت بصلة للأمن الأوروبي ومع مخاطر إحياء نزعات الحرب الباردة وإحياء خطوط التماس مع روسيا، إلا أن أوروبا رضخت للشروط الأميركية، وهي واقعياً لا تستطيع أن تلبس عباءة المنافس في الوقت الحالي. أما القطب المحتمل الثالث، المتمثل في الصين، فعلى الرغم من أكثر السيناريوهات تفاؤلاً بمستقبل العملاق الأصفر والقفزات الاقتصادية التي تحققت، فإن الصين لاتزال في حاجة لتغييرات أعمق وأشمل لتتحول لقوة قادرة على المطالبة بشراكة استراتيجية مع الولايات المتحدة، أو بدور دولي فاعل ومؤثر سواء على المستوى الإقليمي أو الدولي، وبالنسبة لرابع الأقطاب المحتملة اليابان، فقد تراجعت السيناريوهات التي كانت قد رسمت أدواراً أكبر لليابان باعتبارها قوة اقتصادية عظمى لابد أن تبحث عن دور سياسي يوازي ثقلها الاقتصادي. يمكن القول اليوم استناداً إلى التحليل السابق: إن النظام الدولي يواجه فشلاً مزدوجاً، فالولايات المتحدة رغم انفرادها بالنظام الدولي وسعيها لتحجيم الدول الكبرى الأخرى لم تستطع أن تؤسس نظاماً أحادي القطبية، بل إن ممارسات العقدين الماضيين قد أسست لانفراد بالقوة خارج النظام أي نظام اللانظام، في الوقت الذي وُوجه السعي لتأسيس نظام عالمي متعدد القطبية بالتحجيم. الأرجح أن يتطور النظام إلى نظام متعدد القطبية باتفاق الأقطاب وإجماع الدول، وذلك ليس سعياً فردياً من هذه الأقطاب، بل باتفاق دولي على تقاسم المسؤوليات الدولية، فمن المستحيل أن يستمر النظام الدولي خاضعاً لقوة واحدة ومن الاستحالة أكثر إخضاعه بالقوة.