هل ذابت النخبة الفكرية في ملح الأيام في هذه الدولة؟ لا يمكن الإشهار بإجابة سهلة ومحددة، وليس من السهل الوصول إلى مغاليق الإجابات المتوارية خلف الكثير من التراكم والتجارب. الجلي أن هناك غياباً مَّا، لكن هذا الغياب هل فرضته بطانة المتنفذ، أم أنه غياب طوعي آثرته هذه الفئة المفكرة حين تضاءلت مساحة حركتها وتوصيفها لمهامها الأصلية والمهمة؟ فصاحب الثوابت والقيم والمبادئ، يكاد يكون قصة من الماضي الجميل، أو ربما اكتفى بمساحات الشبكة العنكبوتية ليقرأ مواضيع غاية في الجرأة وفي العلاج وفي تحديد المشكلة وحلولها. فالمنتديات تزخر بأقلام شابة فذة، تهتف بالأخلاق والثوابت، وتعيب على بائعي الكلام كونهم تخلوا عن أصولهم وعن مبادئ لابد أن تتراكم مع الأيام لتجسر الفجوة بين أصحاب القرار والنخب المثقفة، وكأن هؤلاء الكتاب قادمون من عالم مجهول لا نعرفه ونكاد نتعرف على أكوانهم الممتلئة بكثير من الوصفات لقهر العجز ولرأب التصدعات والتفكير في دولة جديدة ناهضة نحو المستقبل على الدوام. في رواية مشهورة للإمام جعفر الصادق "كفارة العمل مع السلطان قضاء حوائج الإخوان"، نجد أن الفكر الشيعي استلهم من العلاقة بين الحاكم والمثقف الكثير من مثل هذه الأقوال والأفكار، وتزخر أفكار ابن خلدون وأبي حيان التوحيدي وهارون الرشيد قبلهم بشكل العلاقة المهمة والضرورية بين أرباب الفكر وأرباب السلطة. هذا الدور الذي تخلت عنه النخبة المفكرة ولم يبقَ في الساحة إلا أنصاف المفكرين الذين ارتأوا أن يبحثوا عن مصالحهم أولاً وأخيراً. فبدايات الدولة كانت تزخر بالكثير من أصحاب الجرأة والفكر والحديث، والذين أسهموا في ترسيخ وحدة البلاد وفي تحديد الكثير من المفاهيم والقيم آنذاك، والجيل الذي تلا هؤلاء انتهى وجوده منذ زمن، ولم تظهر دماء جديدة تضخ مزيداً من المواقف وتسعى لترسيخ علاقة صحية قائمة على حماية الصالح العام مع أصحاب القرار. هل تراجع دور النخبة لكونها همشت من القرار السياسي، أم أنها انشغلت بهموم الحياة المعتادة فسقطت في اهتمامات من أنواع أخرى، أكثر ضرورة وإلحاحاً؟ يرى البعض من أفراد النخبة أن هناك إقصاءً لمثل هذه الشريحة، لأن وجودها كان قد يضر بمصالح بعض الذين بحثوا عن مكانة اجتماعية بغض النظر عن أية أعمال ومفاسد قاموا بها، قد تضر وتؤثر على الآخرين. ولكن الأقسى من الإقصاء، هو تخلي هذه النخبة عن أفكارها وتراثها وارتداؤها لأثواب التزلف والتملق وقرع الأبواب، وكأن كل ما اكتنزوه من فكر وإيمان بقناعات إنسانية سامية كان مجرد هباء، وهو بذلك لا يضر تاريخه فقط، بل إنه يؤثر على المجتمع بأكمله حين يغيب أصحاب المبادئ ويتخلون عنها ويتحول الجميع إلى مجرد أفراد لا يسعهم تغيير مصيرهم أو التأثير في مجريات الحياة حولهم، ما دام أهل الفكر والثقافة لم يتمكنوا من حماية عقولهم والدفاع عن مصالح الوطن. تحتاج النخبة المثقفة والمفكرة إلى إعادة حسابات، وإلى فهم حقيقة أن التاريخ لا يغفر لأصحاب المواقف المتحركة بقدر ما يحترم ويجل أهل الثبات والمبادئ، وهم الذين يحتاجهم المجتمع اليوم أكثر من أي فترة أخرى مضت أو ستأتي.