سيسيليا ساركوزي: الخيوط الخفية لرحلة طرابلس! ربما يقول المؤرخون الأوروبيون ذات يوم في المستقبل: إن عقيلة الرئيس الفرنسي سيسيليا ساركوزي، دخلت النجومية من بابها العريض بعدما نجحت في الإفراج عن الممرضات البلغاريات والطبيب الفلسطيني وإنقاذهم من حكم الإعدام الصادر بحقهم في ليبيا مؤخراً. لكن للاشتراكيين الفرنسيين رأياً آخر، إذ طالبوا بمساءلة سيسيليا أمام لجنة تحقيق نيابية سيتم إنشاؤها لكشف خيوط الدور الفرنسي في "صفقة الممرضات"، ومستجدات العلاقة بين باريس وطرابلس، بما فيها صفقات بيع السلاح الفرنسي لليبيا وتمكينها من بناء مفاعل نووي للأغراض السلمية. وحسبما ما أعلنه النواب الاشتراكيون يوم الأربعاء الماضي، فإنه "كلما لعبت سيسيليا ساركوزي دوراً عاماً، أي كلما تحولت إلى مبعوثة رئاسية، تتعين مساءلتها مثل ما يحصل مع أي مبعوث رسمي". لكن ما حقيقة الدور الذي لعبته سيسيليا في إنهاء أزمة الطاقم الطبي الذي كان معتقلاً في ليبيا؟ وإلى أي مدى يعبر ذلك الدور عن شخصيتها الحقيقية؟ مثّل ملف الممرضات البلغاريات الخمس والطبيب الفلسطيني، معضلة عويصة في العلاقات الليبية الأوروبية لم يتسن تجاوزها طوال الأعوام الثمانية الماضية، حيث خضع الطاقم الطبي المذكور لسلسلة تحقيقات ومحاكمات أدانت أعضاءه بتهمة تعمد حقن 450 طفلاً ليبياً في مستشفى بنغازي بدم ملوث بفيروس "الإيدز". وغداة تثبيت حكم الإعدام من طرف المحكمة العليا الليبية، توجهت سيسيليا إلى طرابلس يوم 12 يونيو الماضي، واقترحت على سلطاتها فكرة التكفل الفرنسي الكامل بتطوير مستشفى بنغازي مقابل إطلاق سراح الطاقم الطبي، إلا أن مقترحها لم يستهو الجانب الليبي، فعادت من طرابلس بحصيلة مخيبة. لكنها أعادت الكرّة يوم الـ22 يوليو، وبعد لقائها مع القذافي، اختصرت سيدة فرنسا الأولى المشهد كله وهي تهبط من الطائرة الرئاسية في مطار باريس مصطحبة معها الممرضات البلغاريات والطبيب الفلسطيني. ولم يسبق مطلقاً لعقيلات الرؤساء الفرنسيين أن قمن بمبادرات من هذا النوع، بل لم يطلعن بأي أدوار سياسية رسمية، وبقين غالباً في ظل أزواجهن دون أضواء أو صخب. فقد كانت "برناديت شيراك"، الوديعة الصابرة، أشبه في حنوها وتحملها لزلات زوجها، بالنساء الشرقيات المتفانيات. وقبلها كانت "دانيال ميتران" مثالاً عجيباً في التستر والحرص على حياتها الأسرية، حين تجاهلت وجود غريمة لها في كواليس الأليزيه! أما سيسيليا ساركوزي، فهي أول زوجة رئيس فرنسي تضرب علناً عرض الحائط بتلك التقاليد، وتدشن مهمة دبلوماسية كبرى بحجم ملف الممرضات، كما أنها أول سيدة للأليزيه يخصص لها مكتب وملحق إعلامي ومستشار سياسي. وقد حاول الرئيس ساركوزي الإيحاء بأن ما قامت بها سيسيليا كان مجرد مبادرة شخصية، لكن مباشرة بعد نجاحها قام هو بزيارة رسمية لليبيا وقع خلالها اتفاقيتي تعاون في الميدانين الدفاعي والنووي، مما اعتُبِر تتويجاً لجهود سيسيليا في ذلك الملف منذ عدة أشهر، أي منذ وصول زوجها إلى الأليزيه في نصر انتخابي مؤزر سلط عليها الأضواء مجدداً. ولدت سيسيليا ساركوزي، واسمها الأصلي "سيسيليا ماريا إيزابيل سينغار آلبينيز" في منطقة "أوفان سان" بفرنسا عام 1957، لأبوين من أصول رومانية (غجرية يهودية)، وتعلمت في المدارس الكاثوليكية ودخلت كلية الحقوق، ثم عملت كعارضة لأحد بيوت الأزياء، قبل أن تصبح ملحقة صحفية في مكتب نائب في البرلمان الفرنسي. تزوجت سيسيليا عام 1984 مع نجم المنوعات التلفزيوني "جاك مارتن"، لكن من غرائب الصدف أن قرانهما في ضاحية "نويي" الباريسية الراقية، تم برعاية رئيس بلديتها آنذاك نيكولا ساركوزي الذي أغرم بالعروس منذ النظرة الأولى. وبعد إنجابها ابنتين من "مارتن"، حصلت سيسيليا على الطلاق، كما أنهى ساركوزي زواجه الأول الذي أنجب منه ابناً، ليتزوجا عام 1996 وينجبا طفلاً في العام التالي. في ذلك الأثناء كان ساركوزي يتلمس طريق صعوده السياسي، وقد أًصبحت سيسيليا جزءاً لا يتجزأ من حياته، لكنها بدأت تعرب عن تضايقها منه؛ فهي معروف عنها تمسكها بحريتها واستقلاليتها، كما أنها صريحة وجريئة وتكره الروتين وتخاف الملل. وقد أثارت ضجة قبل عامين حين أعربت عن فخرها لأنه ليس في عروقها "نقطة دم فرنسية". وبسبب أسلوبها الخاص، فقد تعرضت حياتها الزوجية لشائعات كثيرة، ومن ذلك ما قيل: إنها هجرت زوجها عام 2005 إلى صديق لها في أميركا، قبل أن يعلن مقرب من عائلة ساركوزي أن سيسيليا عادت إلى عش الزوجية. ثم اختفت قبيل انتخابات الرئاسة الأخيرة، مما أثار تخمينات بأنها هجرت بيتها إلى أحضان رجل آخر. وقد تخلفت سيسيليا عن الظهور مع زوجها في مناسبات مهمة؛ فلم ترافقه خلال حملة الاستفتاء الفرنسي على الدستور الأوروبي عام 2005، وخلال الانتخابات الأخيرة ذهبت لتقضي إجازة في فلوريدا وبعد عودتها لم ترافق ساركوزي عندما ذهب للتصويت. كما لم يرها الفرنسيون معه في الحفل الغنائي الضخم بمناسبة العيد الوطني الفرنسي. وقبل ذلك بأسبوعين قطعت إقامتها معه في برلين أثناء قمة الثمانية الكبار، وعادت فجأة إلى باريس بحجة تنظيم حفلة عيد ميلاد ابنتها. وربما كان أحدث تجسيد لتمردها على التقاليد غيابها عن الزيارة الشخصية التي قام بها الرئيس ساركوزي لنظيره الأميركي وعائلته في مزرعة الأخير، لاعتبارات "صحية". ورغم كل ذلك فقد تمسك ساركوزي بسيسيليا وخاض معارك ضد الصحافة بسبب ما تنشره من حكايات غرامية في حياة زوجته، أما ما يثار إعلامياً هذه الأيام، وما يطرحه الاشتراكيون أيضاً حول مهمة سيسيليا في طرابلس، فيتضمن "افتراضات" كثيرة؛ منها أن سيسيليا استخدمت كافة مواهبها لإقناع القذافي بمقترحها، وأنها أقامت علاقة حميمة مع ابنته عائشة، أو لوَّحت له بإمكانية شل وتعطيل نظام الدفاع الجوي الليبي الذي يعمل ببرامج وشفرات فرنسية الصنع... وأياً تكن الحقيقة، فالثابت أن سيسيليا أحرزت سبقاً دبلوماسياً كبيراً، وهي لذلك تحظى بالاحتفاء والتبجيل في صوفيا حالياً، بقدر ما تواجَهُ بشكوك واستفهامات كثيرة في باريس، قد تتحول إلى مساءلة هي الأولى من نوعها لسيدة الأليزيه أمام البرلمان! محمد ولد المنى