تاريخ القضية الفلسطينية هو تاريخ الأقوال والأفعال. الأقوال من العرب عن العدوان والاستيطان الإسرائيليين والتأييد الأميركي المطلق للكيان الصهيوني. أما الأفعال فهي الاعتراف والمفاوضة والصلح "وداوني بالتي كانت هي الداء". والأفعال من العدو الإسرائيلي، العدوان اليومي منذ نشأته حتى احتلال كل فلسطين وإقامة الجدار العازل، وأما الأقوال فحديث عن السلام والأمن وإقامة دولتين تعيشان جنباً إلى جنب، والتفاوض مع المعتدلين واستبعاد الإرهابيين. فمنذ النكبة في 1948 ورفض العرب قرار التقسيم بالفعل، يستمر العرب في الرفض القوْلي. وتستمر إسرائيل في الاستيلاء على ما يتجاوز التقسيم في النقب حتى قرية أم الرشراش التي أصبحت "إيلات"، منفذ إسرائيل الوحيد على البحر الأحمر، وطريق التجارة البحرية إلى آسيا عبر المضايق العربية في تيران وباب والمندب، وتهديد الأمن القومي العربي في البحر الأحمر الذي كان إلى عهد قريب بحيرة عربية بين مصر والأردن والسعودية واليمن والسودان وجيبوتي. ومنذ انسحاب إسرائيل من شبه جزيرة سيناء بعد العدوان الثلاثي على مصر في 1956 واحتفال مصر بعيد تحرير سيناء فإن قوات الأمم المتحدة ظلت موجودة في مضايق تيران. نحتفل بالقول وإسرائيل تحتل بالفعل. وبعد عدوان 1967 الذي كان سببه الرئيسي سحب قوات الأمم المتحدة من المضايق وغلق مدخل الخليج، قبلنا قراري 242، وقرار 338 الداعيين لانسحاب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة، وإسرائيل تبني المستوطنات وتبتلع أراضي غزة والضفة الغربية. وقبِل العرب "مشروع روجرز"، ورفعوا شعار "إزالة آثار العدوان" وليس تحرير فلسطين، كل فلسطين من البحر إلى النهر، وإسرائيل تستوطن وتضم الأراضي المحتلة. وفي حرب أكتوبر 1973 تحول العرب إلى الفعل الصامت فأنجزوا العبور العظيم، ثم سرعان ما تحول إلى أقوال "حرب أكتوبر آخر الحروب"، "السلام خيار استراتيجي". وفي نفس الوقت الذي تقوم فيه إسرائيل بالفعل بالتركيز على بناء المستوطنات وتوسيعها وإحضار ما يقرب من مليون يهودي روسي مهاجر في موجة ثانية بعد الموجة الأولى في 1948 من اليهود العرب، نعترف بإسرائيل، ونفاوض المحتل، ونصالحه في كامب ديفيد الأولى في 1978، وفي معاهدة السلام المصرية- الإسرائيلية في 1979. وندعي أننا نعمل على تحرير باقي الأراضي المحتلة في فلسطين وسوريا بالقول، ونتبادل السفراء مع إسرائيل ونطبِّع معها سراً بالفعل. وبعد اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى والثانية وفرض المقاومة الفلسطينية وجودها على الساحة السياسية بدأت الولايات المتحدة تبيع الأقوال: خريطة الطريق، حل الدولتين، الانسحاب من معظم الأراضي المحتلة، القدس الشرقية. وقد عبرت ورقة كلينتون عن ذلك أولاً بعد كامب ديفيد الثانية بين منظمة التحرير وإسرائيل، بعد الاعتراف المتبادل بينهما. ومنذ ذلك الوقت يرفض العرب قولاً كل مشاريع التسوية المقدمة من إسرائيل، غزة أولاً، أريحا أولاً، الخيار الأردني، ومن الولايات المتحدة الأميركية يقبلون خريطة الطريق أخيراً التي تبيع الأقوال والآمال. أما الأفعال فالتأييد الأميركي والغربي المطلق لإسرائيل بدعوى دفاعها عن حقها في الوجود والأمن ضد "الإرهاب" الفلسطيني. وأخيراً جاءت "مبادرة السلام العربية" لتؤكد مقررات "مدريد" و"أوسلو"، الأرض مقابل السلام، الانسحاب الكامل من الأراضي العربية المحتلة في مقابل التطبيع الكامل مع إسرائيل. وأعلنتها السعودية بما لها من ثقل اقتصادي وديني. وإسرائيل بالأفعال ترفض وتعتدي وتحتل وتغتال وتدمر وتقتل وتطارد. والعرب يرفضون عدوان إسرائيل المتجدد بالقول ويتصالحون معها ويطبِّعون بالفعل. ويدين العرب تأييد الولايات المتحدة لإسرائيل بالمال والسلاح وفي المنظمات الدولية. وفي نفس الوقت فإن معظم النظم العربية صديقة لأميركا. وقد يتكرر الأمر ذاته في مؤتمر الخريف القادم، يبيعون الأقوال على حذر، الدولة الفلسطينية الموعودة، وبالأفعال تعقد أميركا مع إسرائيل صفقة بثلاثين مليار دولار على مدى عشر سنوات قادمة، معونات عسكرية واقتصادية. وتحاصر "حماس" وترفض التعاون معها بالرغم من أنها أتت إلى السلطة بانتخاب ديمقراطي. يأخذون باليمين ما يعطونه باليسار. وظيفة المؤتمر القادم مجرد اكتشاف آفاق للسلام، وضع مبادئ عامة وضعت من قبل في "مدريد" و"أوسلو"، إيجاد إطار عام، عدم الدخول في التفاصيل أو التعرض للقضايا الجوهرية، كالقدس واللاجئين والحدود وحق العودة. يقدمون الأقوال دون الأفعال. يبيعون لنا "الترام" بتعبير أحد الكتاب النابهين. وإسرائيل تقبل على مضض فكرة المؤتمر الدولي. وهو ليس مؤتمراً بل "لقاء" لتفريغه من مضمونه الدولي الإلزامي. تتحدث عن السلام والتسوية وضرورة المفاوضات المباشرة، ولكنها لا تجد الشريك الفلسطيني. وإن وجدت فمن اختيارها، السلطة الوطنية الفلسطينية، ممثلة في رئيسها، وليس الإرهابيين الذين يودون تدمير إسرائيل ولا يعترفون بوجودها. تتحدث عن الدولتين وتقيم جدار الفصل العنصري، وتوسِّع المستوطنات، وتعتدي يومياً على غزة، وتداهم المدن الفلسطينية، تهدم المنازل، وتغتال النشطاء، وتعتقل المطلوبين، وتضع مئات الحواجز في الضفة لتقطيع أوصالها ومنع الشعب الفلسطيني من التحرك على أرضه. وتستعد للحرب ضد سوريا ولبنان لإنهاء ما تبقى من مقاومة عربية وإسلامية لإرادتها وإرادة الولايات المتحدة الأميركية. وأحد أسباب هذا الخُلف بين الأقوال والأفعال هو الموروث الثقافي. فالقول لدينا مكتفٍ بذاته. والخطاب له أثر سحري، الخطاب الديني أو الخطاب السياسي. يفرِّج الكرب، ويخفف الهم، ويريح النفس، ويحل المشاكل، وينهي الأزمات. واللغة العربية وسحر الكلمات يساعد على ذلك. وقد نبَّه القرآن العرب على ذلك وعاتبهم بأنهم يقولون ما لا يفعلون (يا أيها الذين آمنوا لمَ تقولون ما لا تفعلون. كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون). ويصفهم بأنهم (يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم). وفي المقابل سيطرت البراجماتية على الفكر الغربي. وهي تعطي الأولوية للفعل على القول، والعمل على النظر. وصدق الفكر ليس في صدقه النظري المنطقي، اتفاق المقدمات مع النتائج بل في إمكانية تحقيقه العملي وأثره الفعلي في الواقع وبين الناس. شيء واحد يتم تحقيقه خير من عشرة أشياء يتم التنظير لها. وهو أقرب إلى الموقف الإسلامي في أولوية العمل على النظر (وقُلِ اعْمَلُوا)، (قلْ يا قومِ اعْمَلُوا على مكانَتِكُم إنِّي عاملٌ)، (فأما الزبدُ فيذهبُ جفاءً، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض). قد تكون الأقوال دون الأفعال هي حيلة العاجز عن فعل شيء. فيتحرك عن طريق اللسان، ويناضل بالكلام، ويصُول ويجول على مستوى الأقوال. وهو ما عرف باسم الخطاب السياسي العربي الذي يهدف إلى الاستهلاك المحلي وامتصاص غضب الجماهير. وهو امتداد للخطاب التقليدي "أسمع كلامك يعجبني أشوف أفعالك أستعجب"، أو "خد من كلام الشيخ ولا تأخذ من أفعاله". أما الطرف القوي القادر على الفعل فلا يحتاج إلى قول. الفعل قوله. والصمت لغة لا يحسنها العرب. وقد وصل الأمر إلى حد اعتبار أحد المستشرقين العرب "ظاهرة صوتية". وقد غير "جوته" أول آية في إنجيل يوحنا "في البدء كانت الكلمة" إلى "في البدء كان الفعل". فمتى تتغير بنية الثقافة العربية وتتحول من القول إلى الفعل، ومن الكلام إلى التحقيق، ومن اللَّغو إلى الصمت.