كان حديثنا في مقال سابق عن مرحلة انتقالية غير مستقرة يمر بها النظام الدولي فيما يتعلق بمفهوم مائع هو القيادة الدولية لهذا النظام في القرن الحادي والعشرين. لكن هذه المرحلة الانتقالية الدولية تجد انعكاساتها في ميادين عدة، وتبرز عند تحليلها ظواهر جديدة تغلف دراسة العلاقات الدولية، وتتداخل فيها سياسات الدول مع القانون الدولي، وترسم أطرها قرارات مجلس الأمن والمنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية، وزالت معها الحدود الفاصلة بين حق التدخل الإنساني وممارسة الدول لسيادتها الوطنية، فانتهت مرحلة سيادة القانون الدولي المنظم للدول بدخول فاعلين دوليين جدد من منظمات إرهابية وأحزاب تحرر وطنية وأفراد وحتى منظمات حقوق الإنسان، فتقارير منظمات حقوق الإنسان، كمنظمة العفو الدولية ومنظمة مراقبة حقوق الإنسان، غالباً ما ينظر إليها كتقارير محايدة ترسم أخلاقيات الدول وتوضح ممارساتها بالنسبة لحقوق الإنسان في الدول، فهي معنية بما يجري داخل حدود الدولة الإقليمية، والدول معنية بتنظيف سجلات حقوق الإنسان فيها. إنه عصر جديد آخذ في التشكل، دخل معه المجتمع الدولي حقبة جديدة من التطور والتغيير، وغدت مفاهيم كالمصلحة الوطنية والسيادة فاقدة لقدسيتها لمصلحة العدالة الإنسانية أو العدالة الدولية، فأين موقع الدول العربية من العصر الجديد؟ هل تساهم في تشكيله أم تلتحق به كأمر واقع؟ شهد مفهوم سيادة الدولة على حدودها الجغرافية وشعبها تبدلاً- إن لم يكن ثورة- في المفهوم، فعلم السياسة يؤرخ لمعاهدة ويستفاليا في العام 1648 والتي أنشأت الدولة الحديثة في أوروبا، وأخذت تترسخ وتكتمل في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وأصبح مفهوم السيادة الوطنية عنصراً رئيسياً من عناصر تشكل الدول والاعتراف الدولي بها، وبقيت السيادة العنصر الأهم في إبراز سلطة الدولة ممثلة بحكومتها على شعوبها، سواء كان حكماً ديكتاتورياً شمولياً أم حكماً ديمقراطياً. وأصبح عدم التدخل في شؤون الدول مبدأً دبلوماسياً عُدَّ معه التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى خرقاً للأعراف والتقاليد الدولية، لكن بنهاية القرن العشرين وانتهاء الحرب الباردة وبداية العصر الأميركي والقيم المعولمة أصبح التدخل في شؤون الدول الأخرى من صميم السياسات الدولية خاصة للدول "الكبرى" وأصبح معه التدخل لدعم القيم الديمقراطية وقيم حقوق الإنسان ليس مقبولاً فقط، بل ويستند إلى الشرعية الدولية ويحظى بدعم المجتمع الدولي. في عالم اليوم أصبح قرار الدول محكوماً أكثر وأكثر، وغدا التكيف مع مفردات نظام دولي آخذ بالتبلور من أولويات الدول، فشهدت غالبية الدول الحديثة النشأة ظهوراً متصاعداً للأقليات والقوميات والأديان والهويات الباحثة عن جذورها في ظل سياسات الإدماج القسري السابقة، لتواجه الدول بمعضلة الهوية الوطنية والانتماء. لقد أخرجت العولمة مارد الأقليات من قمقمه لتغدو معه مطالبات الأقليات الإثنية والعرقية بالاستقلال شرعية ومدعومة دولياً، ولتصبح الصورة أكثر وضوحاً، دولٌ تتوحد كتطور سياسي لدولها متجاوزة تاريخاً من الصراعات الدموية كأوروبا ودول تتفتت إلى أجزائها الأولية مستعيدة أحقاداً وثارات لم تتمكن الدولة الحديثة من تهذيبها، والأمثلة على ذلك تمتد بامتداد الجمهوريات السوفييتية المستقلة إلى الدول العربية بصراعات مجتمعاتها الكامنة بالسقوط المدوي للدولة العراقية كدولة وطنية واحدة تحوي أطيافاً من المذاهب والأعراق. دخل المجتمع المدني الدولي كفاعل وضاغط على سياسات الدول ممارساً أنشطته عبر سلسلة متنامية من المنظمات غير الحكومية التي تتنوع في اهتماماتها وتتوسع أنشطتها العابرة للحدود، وأظهرت بالفعل وخلال السنوات الماضية نظرة عالمية لأنشطتها، عبرت عنها بدعمها وتبنيها لقضايا كالبيئة والمرأة وحقوق الإنسان والانفجار السكاني في المؤتمرات الدولية وعلى أرض الواقع. إن دعم منظمات المجتمع المدني الموازية لمنظمات المجتمع المدني الدولية وتعزيز شراكاتها بدلاً من محاربتها، يعد خياراً استراتيجياً للدول مع ما سيصاحبه من تقليص للصلاحيات المطلقة التي كانت تنعم بها الحكومات في السابق. لا زالت الدولة العربية متمسكة كل التمسك بموقعها المحوري وبكونها صاحبة القرار الأول في الأمور الحيوية، وهذا صحيح بالنسبة لكل الدول العربية بما في ذلك أكثر الدول ضعفاً، لكن موقع الدول العربية على الخارطة الدولية تحدده خياراتها الراهنة، صحيح تملك الدول العربية خياراً في ظل التطورات الدولية الجارية، ولازال باستطاعتها التواؤم مع المتغيرات الدولية بمحاولة فهم المشهد العام والتثبت من نتائجه عليها، ومن ثم التعاطي مع هذه المتغيرات، والتعاطي مع الظواهر الدولية المستحدثة بإيجابية، فلا مجال لإعادة إنتاج مفردات النظام الدولي القديم، ولا يمكن التعاطي مع النظام الدولي الجديد من خلال الأطر والمفاهيم الكلاسيكية التي انتقلت إلى كتب التاريخ المعاصر، فسيادة الدول تلاشت، والتخندق حول ممارسة السيادة المطلقة على شعوبها يؤدي إلى المزيد من التدخل الدولي في شؤون الدولة، كما أن التعاطي مع مفاهيم وقضايا حقوق الإنسان أصبح حقيقة ترسم السياسات على أساس سجل الدولة وتعطل الاتفاقيات والمفاوضات حال وجود خروقات لحقوق الإنسان في الدول، حتى المواريث الاجتماعية التي عدت ولسنوات ممارسات خاصة بشعوب اعتراها التدخل السافر من أجل تحطيمها واستنكارها دولياً، كالتكثيف الإعلامي المضخم حول بعض العادات الاجتماعية السلبية مثل ختان الإناث، والتي أصبحت عنواناً رئيسياً للمنظمات الدولية وللجمعيات النسوية، ألقت بظلالها على صدور قرارات وقوانين تحرم وتجرم هذه الممارسة كما حصل في مصر. وعوداً على بدء، إن النظام الدولي في عالم اليوم يمر بحالة تجاذب إن لم يكن تعارضاً صارخاً بين قواعد النظام الدولي، التي أرسيت في القرن الماضي بفعل ميثاق الأمم المتحدة ونظام دولي يتشكل يستمد أسسه من الحقوق التي حددها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، التي هي ركيزة من ركائز النظام الدولي السابق، تأسست عليه الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، والتي تضمن في عالم اليوم حقوق الفرد ضد استبداد الدول. لقد أسس العقد الأخير من القرن العشرين لمرحلة جديدة في العلاقات الدولية لها سماتها الخاصة، والتي لازالت في مرحلة التشكل ولم تستقر بناها ولا أقطابها. وبدلاً من أن تجد الدول العربية نفسها على هامش التغيير، ظهرت الحاجة للتعاطي مع مفردات هذه المرحلة، فالقرية الدولية وأحاديث العولمة تجاوزت الحدود الوطنية ومعها سيادات الدول، فالمطلوب من حكومات الدول العربية في عالم اليوم أن تتبنى التغيير في سياساتها لا أن تحاربه، وأن تتعاطى بمفردات الحاضر لا أن تتوه في كتب التاريخ.