يأتي إنشاء "لجنة الفتوى الشرعية" بدائرة القضاء في إمارة أبوظبي، ضمن خطوات منهجية تلبّي احتياجات المجتمع وتتصدّى أيضاً للفوضى المتنامية في مجال الفتوى الدينية، التي تعاني أزمة ملحوظة في السنوات الأخيرة جرّاء دخول الكثير من المغامرين والدخلاء على خط إصدار الفتاوى التي تطارد الجمهور في الفضائيات. والمؤكد أن قرار سمو الشيخ منصور بن زايد آل نهيان، وزير شؤون الرئاسة، رئيس دائرة القضاء في أبوظبي، الخاص بإنشاء "لجنة فتوى شرعية" بدائرة القضاء تضمّ نخبة من كبار العلماء المشهود لهم بالكفاءة، إنما يعدّ خطوة عملية باتجاه تقنين إصدار الفتوى والتجاوب مع الحاجة المجتمعية المتنامية للاسترشاد والاستنارة بالرأي الفقهي في ظلّ تعقيدات الحياة وشيوع الفتاوى والاجتهادات، فضلاً عن الحاجة إلى التعرّف إلى رأي الدين في بعض تفاصيل المعاملات التجارية وعقود الاستثمار والمرابحة، وغير ذلك من أمور تتطلّب تنظيم وتوحيد شؤون الفتوى عبر لجنة متخصّصة تكرّس سماحة الدين الإسلامي وتنأى به عن الاجتهادات المغلوطة والتشدّد المذموم من دون التفريط في الثوابت الدينية، خاصة في ظلّ إخفاق الحملات التي استهدفت التصدّي للعبث الديني وفوضى إصدار الفتوى عبر الكثير من الفضائيات، وأيضاً في ظلّ صدور الكثير من الفتاوى ثم التراجع عنها وما يرتبط بذلك من تشويه للدين الإسلامي والتسبّب في إحداث حالة من التشوش الديني غير المسبوق لدى الجمهور الذي انشغلت قطاعات عريضة منه بأمور لا تمتّ للدين بصلة، فضلاً عن توظيف الدين لأغراض سياسية وذاتية والمتاجرة به تحت عناوين وشعارات مختلفة تقدّم للبسطاء حلولاً وهميّة مغلّفة بعباءة الدين، مما يكرّس ثقافة الجهل والشعوذة والدجل وتغييب جمهور البسطاء عن واقعهم وشغلهم بأمور غيبية ربما تزلزل أسس عقيدتهم وتصرفهم عن البحث عن حلول واقعية لإشكالياتهم الحياتية اليومية. والمؤكد أيضاً أن الحاجة إلى لجنة متخصّصة للفتوى لا تقتصر على التصدّي لطوفان الفتاوى في الفضائيات، بل أيضاً تلبّي حاجة المجتمع المحلّي إلى فتاوى شرعية "متخصّصة" في شؤون البيع والشراء والتجارة والاستثمار ومختلف أنواع المعاملات التجارية، بحيث توفر هذه اللجنة للمواطنين والمقيمين على حدّ سواء ردوداً وإجاباتٍ منهجيةً شرعيةً ترتكز على فهم عميق لواقع المجتمع وأسس العلاقات التجارية والاقتصادية السائدة بين أفراده مع الإلمام بشؤون هذه المعاملات والإدلاء بفتاوى مدروسة تخدم المجتمع الإسلامي وتساهم في تطوّره وارتقائه بعيداً عن الاجتهادات والقياسات غير الدقيقة بين مجتمع وآخر. إن إنشاء لجنة فتوى شرعية في دائرة القضاء يمثّل تكريساً محموداً للاعتماد على علماء الدين الثقاة، خصوصاً فيما يعرف بفقه التجارة والمعاملات، وهي الأحكام التي باتت الحاجة إليها متنامية بمرور الوقت، خصوصاً في دولة الإمارات التي تشهد طفرة تنموية واقتصادية تتيح المجال لازدهار أسواق المال والمعاملات التجارية والأنشطة الاستثمارية، بما يضاعف الحاجة إلى لجان شرعية متخصّصة تجيب عن أي تساؤلات ذات صلة بهذا الشقّ من المعاملات الحياتية. وبالتالي فاللجنة هي فعل تنويري يفكّك تعقيدات الشؤون الحياتية ويؤطّرها وفق منهج إسلامي قويم نابع من مرجعية ذات مكانة تدرك قيمة الفتوى بحكم ما يمتلكه أعضاؤها من علم يساهم في تنظيم حياة المجتمع ولاسيّما في مسارها الاقتصادي والتجاري، وما يرتبط بها من معاملات يومية للأفراد مع مؤسسات مالية ضخمة يتطلّب الإفتاء في التعامل معها خبراتٍ شرعيةً تتجاوز إطار نقل آراء الأقدمين إلى مجال الاجتهاد في معرفة الحكم الشرعي في ضوء مستجدات العصر. عن نشرة "أخبار الساعة" الصادرة عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية