موضوع الخلافات المذهبية الإسلامية أصبح من الاتساع والتشعُّب والاستغلال السياسي التعبوي الانتهازي، بحيث لا يجوز ترك مواجهته وإيجاد الحلول لتجاوزه للفقهاء وحدهم. إن مشاهدة العشرات من المحطات التلفزيونية الفضائية الحاملة لرايات التعصٌّب المذهبي المنغلق على نفسه وعوالمه المتخيلة، والاستماع لعشرات محطات الراديو التي اندمجت في هذه اللعبة تارة باسم الحكومات وتارة باسم المنظمات المذهبية، وقراءة ألوف الكتب التي تصدر بزخم ضخم مريب لتنفخ في نار الكراهيات وسوء الفهم المذهبي... إن كل ذلك يوحي بأن خطوة جريئة إصلاحية في هذا الحقل المأزوم قد أصبحت من أولوية الضرورات القصوى في حياة العرب والمسلمين. وما عاد بالإمكان الاعتماد على جهود فردية مشكورة تبذل بين الحين والآخر لتظل أصداؤها محصورة بين قلة من المهتمين بهذا الأمر، ولتظل كذلك محدودة في مادتها ووسائلها بسبب محدودية قدرات أي جهد فردي. فمنذ منتصف القرن التاسع عشر والإصلاحيون الإسلاميون، من شتى المذاهب، يحاولون طرح قراءات جديدة عصرية للنصوص الإسلامية الكبرى المتمثلة أساساً في القرآن الكريم والسٌنة النبوية المطهرة، ويحاولون أيضاً نقد وتجاوز بعض القراءات الفقهية القديمة... لكنها جهود لم تحل بعض الإشكالات الإسلامية المشتركة ولا بعض إشكالات الاختلافات المذهبية في الإسلام. وما نشهده ونسمعه الآن دليل على فشل تلك الجهود في بناء تيار إصلاحي إسلامي جامع واسع الانتشار والتجذّر بين جماهير المسلمين. من هذا المنطلق يجدر التمعّن بجدية فيما يطرحه المفكر الإيراني عبدالكريم سروش. منطلق تفكيره هو ضرورة التمييز بين الشيء والعلم به، أي بين الدين والمعرفة به. تلخيص الأمر أن "الشريعة قدسية كاملة وإلهية المصدر والمنشأ، أما فهم الشريعة فلم يكن في أي عصر كاملاً أو ثابتاً أو بعيداً عن الخطأ أو مستغنياً عن المعارف البشرية، وهذا الفهم ليس قدسياً ولا إلهياً ولا أبدياً". لا يمكن فهم ما تقود إليه تلك الجملة فهماً عميقاً دون قراءة كتبه وعلى الأخص كتاب "القبض والبسط في الشريعة" المترجم من قبل دلال عباس. لكن في هذه الجملة نقطتان بارزتان: الأولى أن الشريعة بذاتها موضوع مقدس إلهي أبدي، أما المعرفة بها وقراءتها وفهمها من قبل البشر، فأمر إنساني يقود إلى بناء حقل معرفي ديني إسلامي ينطبق عليه ما ينطبق على كل حقول المعرفة الأخرى وعلى الأخص التجدد الدائم والتفاعل الدائم، بالأخذ والعطاء والاستفادة، مع الحقول المعرفية الأخرى كالعلوم الطبيعية والاجتماعية والفلسفية والتاريخية، بل وعلم أصول المعرفة نفسه. أما النقطة الثانية فهي أن كون المعرفة الدينية هي نتيجة لفهم البشر للشريعة فإنها معرضة للانحراف والمتاجرة والاستغلال من قبل البعض لأغراض دنيوية نفعية. انطلاقاً من واقع الحال نتساءل: هل المدارس الفقهية الإسلامية التي انطلقت منها المذهبية، هي شيء آخر غير حقول معرفية فرعية دينية بسبب كونها نتيجة فهم بشري للشريعة الإسلامية الغرًّاء؟ ثم أليست هي نتيجة تفاعل بين فهم بشري في حقب تاريخية وبين علوم تلك الحقب البسيطة التي كان باستطاعة فرد واحد أن يحيط بأكثرها دون صعوبة؟ اليوم وصل الجمود بهذه الحقول المعرفية الإسلامية إلى عدم رغبة علمائها بالتجديد ورفض الكثيرين منهم التفاعل مع علماء الحقول المعرفية الأخرى. وأدى هذا الجمود إلى صراعات غير معقولة بين هذه الفروع وإلى انزواء المشترك فيما بينها. من هنا ألم يئن أوان قيام مؤسسة تضم الفقهاء الإصلاحيين من شتى المذاهب، كما تضم علماء من شتى حقول المعرفة الإنسانية الأخرى، للقيام بهذه المهمة الكبرى؛ مهمة وضع أسس لقيام حقل معرفي ديني إسلامي جامع مشترك يتخطى الخلافات بين الفروع السابقة ويطرح نفسه كخيار جديد للملايين التائهة المحتارة من المسلمين؟ العرب والمسلمون يستحقون أفضل بكثير مما يشاهده ويسمعه ويقرأه الإنسان من بلادات وانتهازية ترتكب باسم شريعة الإسلام السمحة المبهرة.