في الذكرى التاسعة والعشرين لتغييب الإمام موسى الصدر في عام 1978 تقدم السيد نبيه بري رئيس مجلس النواب اللبناني بمبادرة للخروج من الأزمة اللبنانية كان السيد حسن نصرالله قد ألمح في خطابه بمناسبة الاحتفال بالذكرى الأولى لانتهاء العدوان الإسرائيلي على لبنان في أغسطس 2006 إلى أن بري يعمل على إعدادها. تقوم المبادرة على أساس اتفاق الجميع موالاةً ومعارضةً على انتخاب رئيس الجمهورية على أساس التوافق بأغلبية الثلثين، وفي مقابل ذلك تتخلى المعارضة عن مطلب التوصل إلى حكومة وحدة وطنية قبل الانتخابات الرئاسية، وفور التوافق على المبدأ تعهد بري بإطلاق حوار مع أطراف عدة بدءاً بالكرسي البطريركي وبخاصة قادة الحوار الوطني توصلاً للاتفاق على اسم رئيس الجمهورية الجديد. وألمح بري إلى أنه يمكن بعد ذلك إنهاء اعتصام المعارضة في وسط بيروت، وإبعاد "الشر المستطير" الذي يتربّص بالأيام العشرة الأخيرة. وأعرب بري عن تفاؤله بإمكان التوصل إلى توافق حول شخص رئيس للجمهورية "إلا إذا كان القصد التحكم لا المشاركة". شبَّه البعض مبادرة بري بأنها حجر ألقي في المياه الراكدة اللبنانية، والواقع أن التشبيه غير دقيق، فالمياه اللبنانية في الأيام التي سبقت إطلاق بري مبادرته لم تكن راكدة، وإنما تحولت إلى دوامة مخيفة تهدد بابتلاع التوافق الوطني اللبناني عامة إن لم يكن ابتلاع الكيان ذاته. وكان ثمة مؤشران خطيران على هذا التحول أولهما اقتراح رئيس الجمهورية الحالي إميل لحود تسليم حكومة انتقالية برئاسة قائد الجيش مهام الرئاسة إذا تعذر الاتفاق على انتخاب رئيس جديد للجمهورية في جلسة نيابية تحضرها غالبية الثلثين، وثانيهما تأكيد مصادر في الأكثرية على أن من حقها أن تنتخب رئيساً للجمهورية بالأغلبية المطلقة (أي النصف+ 1) إذا تعذر انتخابه بأغلبية الثلثين. ومصدر الخطورة في الفكرتين السابقتين أنهما تمثلان آليتين لمزيد من اشتعال الأزمة وليس حلها أو حتى تهدئتها، ففكرة الحكومة الانتقالية التي اقترحها رئيس الجمهورية لا يمكن أن تكون مقبولة من فريق الموالاة الذي سيعتبرها افتئاتاً على حكومته الراهنة التي يراها شرعية بطبيعة الحال، وبالتالي فالمؤكد أن الحكومة الانتقالية ستكون إحدى حكومتين وليست حكومة وحدة وطنية في لبنان، بكل ما يعنيه ذلك من احتمالات تفاقم الصراع السياسي داخله، خاصة بالنظر إلى الأبعاد العربية والإقليمية والعالمية لهذا الصراع. من ناحية ثانية فإن الفكرة سوف تفضي إلى مزيد من الفتنة كونها تضع منصب رئيس الحكومة "ولو مؤقتاً" بيد ماروني بما يناقض الأعراف الدستورية اللبنانية التي تقضي بأن يكون المنصب من نصيب السُّنة، واللافت أن معارضي فكرة لحود بالنظر إلى الاعتبارات السابقة وغيرها لم يأتوا فقط من أوساط الموالاة وهذا طبيعي، وإنما من ممثلي قوى عرفت بموضوعيتها ونزاهتها بل وانتمائها نوعياً إلى معسكر المعارضة، أو على الأقل قربها من هذا المعسكر وعدم عدائها له. أما إلحاح الموالاة أو بعض رموزها في الآونة الأخيرة على التمسك بحق الأكثرية في انتخاب رئيس الجمهورية بأغلبية النصف+ 1 فيمثل كارثة أخرى، لأن الفكرة من شأنها تمديد الأزمة بل وتفجيرها، فالقضية ليست في التوصل إلى أي رئيس للجمهورية، والموالاة تعلم أنها أكثرية شكلية إذا جاز التعبير أو أكثرية مؤقتة، وحتى لو بقيت أكثرية في أية انتخابات تشريعية قادمة فإن لبنان ذا التركيبة الفريدة لا يمكن أن يُحكم إلا بالتوافق، وقد كان هذا منطق عديد من أقطاب الموالاة، فما الذي جرى؟ ولنتخيل جميعاً ما الذي يمكن أن يحدث إن أصبح للموالاة رئيس لا يعبر إلا عن توجهاتها ومواقفها وسياساتها وانتماءاتها الخارجية، ما الذي يمكن أن يحدثه من مزيد من التخريب في السياسة اللبنانية، ولنحاول بعد ذلك أن نصل إلى الأسباب الحقيقية التي يمكن أن تدفع "بقادة سياسيين" يفترض أنهم ذوو حكمة ورشادة إلى تبني هذا النهج الخطير، اللهم إلا إذا كان الهدف هو التفجير واستدعاء التدخل الخارجي الذي لن ينفعهم كما لم ينفع غيرهم بشيء. يبقى بعد ذلك أن نناقش إمكانات مبادرة بري في صدد الخروج بلبنان من دوامته المخيفة. الواقع أن المبادرة هي أول مبادرة يمكن وصفها بأنها تعبر عن حل وسط يطلق في الساحة اللبنانية منذ تفاقمت الأزمة السياسية في الآونة الأخيرة، وهذا مكمن قوتها، فتنازل المعارضة عن مطلب تشكيل حكومة وحدة وطنية قبل الانتخابات الرئاسية تنازل جوهري كان بري حريصاً على ألا يُفهم كضعف من المعارضة: "نحن لا نتراجع لكم. نتراجع لأجل احتضانكم. ننحني للوطن لنثبت ما ندعيه"، ومن الصعوبة بمكان أن ترفض الموالاة فكرة التركيز على التوافق على شخص رئيس الجمهورية وخاصة أن الثمن المقدم لذلك من قبل المعارضة ليس بالقليل كما سبقت الإشارة. ولعل هذه الروح الوسطية في مبادرة بري هي ما يفسر ارتباك قوى الموالاة في أعقاب إطلاقها مباشرة، فالكل تقريباً أشار إلى ضرورة التشاور بين قادة الموالاة قبل التعليق على المبادرة، ويعني هذا بداهة أنها تتضمن ما يستحق التشاور بشأنه، وأنك حتى إذا كُنت راغباً في تخريبها تحتاج وقتاً وتنسيقاً كي تسوِّغ هذا التخريب، بل إن بعض المصادر المنتمية للموالاة اعترف صراحة بجدية المبادرة، وبضرورة التعامل معها على هذا الأساس، والبعض الآخر تحدث عن تفاصيل ليس هذا أوانها، أو عن غموض في المبادرة معتاد في مثل هذه المواقف يراه البعض غموضاً بنَّاءً، وأخيراً فإن هناك من اختار "التفاهة" نهجاً للتعليق على المبادرة، فأشار إلى أنها تأتي بعد أن أعطت سوريا الضوء الأخضر لذلك كمؤشر على خضوعها لضغط فرنسي. والحقيقة أن بعض ما سبقت الإشارة إليه بالإضافة إلى تعقيدات الوضع اللبناني يعني أن مبادرة بري لن يكون طريقها مفروشاً بالورود. صحيح أن التوافق على رئيس للجمهورية بمعنى الاتفاق على شخص يبدو ممكناً لأنه من المستحيل أن نتخيل أن لبنان كله لا يضم مارونياً واحداً يمكن التوافق عليه وطنياً، غير أنه لا يقل أهمية عن الاتفاق على الشخص الاتفاق على برنامجه السياسي باعتباره رئيساً للجمهورية يأتي في ظروف أزمة معقدة، وهذا قد يعيدنا إلى نقطة البدء في المعضلة اللبنانية. كذلك فقد أثار البعض بحق مسألة مدى اتفاق قوى المعارضة على مبادرة بري وخاصة أنها تطيح بآمال قائد فصيل بالغ الأهمية فيها -وهو العماد ميشيل عون- في تولي سدة الرئاسة، كونه عاجزاً عن الحصول على تأييد الأكثرية في ظل المعطيات الراهنة. ومع ذلك ففي كل الأحوال وعلى الرغم من كافة المحاذير تبقى مبادرة بري خطوة جادة تحمل الجديد، وتتبنى منطق التسوية وروح الحلول الوسط، وهو ما يعطي أملاً في الخروج من الدوامة اللبنانية نتمنى أن يصمد لمحاولات التخريب من قبل الحريصين على تفجير الوضع في لبنان.