الكلمة النهائية فيما يحصل في تركيا لم تعلن بعدُ. الشعب قال كلمته ويصعب تجاهلها. عملية التحول من القومية العلمانية إلى الديموقراطية العلمانية مستمرة. ماذا سيفعل الجيش حارس العلمانية؟ مهما يكن فإن ما يحصل في تركيا هو نوع مختلف من الثورة. النماذج التقليدية لما يسمى بالثورة الاجتماعية معروفة، وهي الثورة الفرنسية، والثورة الروسية، وأخيراً الثورة الإيرانية. تأتي تركيا لتقدم نموذجاً مختلفاً لهذه الثورة: تعيد صياغة العلاقة بين الدين والدولة، وتصالح الإسلام مع العلمانية بطريقة غير مسبوقة في التاريخ الإسلامي كله. من أهم علامات هذه الثورة نجاح "حزب العدالة والتنمية"، وهو الحزب الإسلامي الذي يقود الثورة، في أمرين: أنه سحب القاعدة الشعبية من الأحزاب السياسية التقليدية، وتمكن، حتى الآن على الأقل، من تحييد المؤسسة العسكرية. في كل ذلك، أو الأمر الثاني، تمكن من خلق قاعدة شعبية إسلامية داخل تركيا لفكرة التقاء الإسلام مع العلمانية. بعبارة أخرى، نجح الحزب في تحقيق مصالحتين: بين المجتمع والدولة، وبين الإسلام والعلمانية. وهو ما لم تتمكن من تحقيقه دولة أتاتورك على مدى أكثر من سبعين سنةً. هذه ثورة مختلفة، وبامتياز. اختلاف الثورة التركية يبرز في آلياتها وحجم هدفها النهائي. هي لا تستخدم الحروب، أو الانقلابات، أو التعبئة الجماهيرية للتظاهر، والعصيان المدني، أو الصدام مع قوات الأمن. على العكس، تحدث الثورة التركية بهدوء، وداخل مؤسسات الدولة، وبواسطة البرامج السياسية والاقتصادية، ومن خلال الحوار وصناديق الاقتراع. والنتيجة كبيرة بحجم ثورة اجتماعية. كان السؤال: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟ في السؤال اعتراف ممزوج بنبرة قهر. نعم سيخسر المسلمون بسبب تخلفهم، لكن العالم سيخسر من ذلك أيضاً. هنا شيء من التشفي يتقاطع مع إيحاء بأن العالم شريك في مسؤولية تخلف المسلمين. الاعتقاد بهذه الشراكة نوع من الهروب من المسؤولية. عندما تنتظر المعونة من خصمك يعني أنك تقع خارج ساحة الصراع. كانت المقارنة التي انطلق منها السؤال مع الدول الغربية. لكن حركة التاريخ جرفت هذا المنطلق، وبسرعة لافتة. مؤخراً أخذت معالم تخلف العالم العربي تتضح وتتأكد بالمقارنة مع دول خارج الفضاء الثقافي والحضاري الغربي. لا نذهب بعيداً لمعرفة ذلك. بعض الدول المحيطة بالعالم العربي تتناقض حضارياً في حركتها ووجهتها بشكل مستمر مع الدول العربية. تتحرك هذه الدول وتنمو، في الوقت الذي يبدو فيه العالم العربي كما لو أنه مكبل بعبء التاريخ، وفاقد لطاقة الحركة. تقدم تركيا مثالاً صارخاً على ذلك. لكن حتى إيران، الجارة المسلمة الأخرى، وإسرائيل العدو الأول للعرب، تقدم نماذج مشابهة. تعطي هذه الدول الثلاث، مع الفوارق والاختلافات، مؤشرات على درجة كبيرة من الحيوية والحركية يفتقدها العالم العربي. صديق لي ومراقب سياسي عن بعد لفت نظري إلى أن هناك مشتركاً واحداً بين هذه الدول. الرئيس الإيراني أحمدي نجاد كان رئيساً لبلدية طهران، ورئيس الوزراء التركي، طيب أردوغان، كان رئيساً لبلدية اسطنبول، ورئيس الوزراء الإسرائيلي كان رئيساً لبلدية القدس المحتلة. ثلاثة رؤساء للبلدية قفزوا بالتدريج، وبآلية انتخابية، إلى أرفع المناصب السياسية في بلدانهم. هذه علامة حيوية سياسية لن تجدها في الدول العربية. تاريخياً كانت إسرائيل صاحبة السبق في ذلك. استطاعت هذه الدولة الاستيطانية الصغيرة أن تجعل من نفسها قوة إقليمية مهيمنة عسكرياً خلال أقل من نصف قرن. ربما قيل إن عدم "طبيعية" هذه الدولة، وشعورها المكثف إلى درجة غير طبيعية بالقلق على أمنها، كان تحدياً استجابت له، بحسب نظرية المؤرخ البريطاني توينبي، بدرجة عالية من النجاح حتى الآن. ربما قيل إن دعم الغرب لإسرائيل هو السبب وراء نجاحها. كل ذلك صحيح، لكننا لسنا في وارد التفسير هنا، وإنما في وارد الملاحظة. في السياق نفسه يمكن أيضاً ملاحظة أن كثيراً من الدول العربية حصلت على دعم غربي، وعلى علاقات واسعة ومتينة مع الغرب، لكنها لم تستفد من ذلك بنفس الدرجة التي استفادتها الدولة العبرية. ننتقل إلى إيران، الدولة التي لم تتمتع بالدعم الغربي. لم تحقق إيران النجاح ذاته. تأخرت في ذلك رغم أن إمكانياتها تفوق بكثير إمكانيات الدولة اليهودية. لكنها تبدو الآن في حالة يقظة وتعمل على استعادة حيويتها وقدراتها. لا يعبر عن هذا فقط طموحها النووي، بل هناك مؤشرات على أن إيران تحقق نجاحات علمية، من أهمها ما يبدو حسب الوكالة الدولية أنها اكتسبت الخبرة والمعرفة الصناعية في المجال النووي. إذا صح ذلك، فإنه يمثل مكتسباً كبيراً يضاف إلى مكتسبات سياسية حصلت عليها في العراق ولبنان، وكلها مكتسبات يمكن البناء عليها. وهو تحديداً ما يعزز فرضية أن إيران تعمل على امتلاك السلاح النووي كوسيلة لحماية مكتسباتها هذه، وحماية دورها الإقليمي، ومن ثم الانطلاق من ذلك إلى ما هو أبعد. معالم التطور الذي حققته إسرائيل هي في مجالات التكنولوجيا، وخاصة العسكرية، والاستثمار، والإعلام، والتعليم، وفي النظام السياسي، مقارنة مع المحيط العربي المباشر. لكن يبقى أن إسرائيل ترتكز على نموذج الدولة الاستعمارية، ومرتهنة في وجودها للغرب، وبالتالي فهي دولة غير طبيعية. أحد كتاب صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية، وهو يهودي، قال عن إسرائيل مؤخراً إنها غلطة تاريخية. التفوق الإسرائيلي مقارنة مع محيطه العربي إذن بقدر ما أنه يعكس حيوية الشعب اليهودي، إلا أنه مرتهن لهذه الطبيعة وهو ما يشكل قيداً خطيراً على السيرورة التاريخية لهذه الدولة. من ناحيتها لم تحقق إيران، وهي دولة طبيعية بامتياز، تطوراً واضحاً أو مماثلاً، وإنما تمتلك إمكانيات بشرية وطبيعية وثقافية كبيرة تؤهلها لأن تحقق تطوراً كبيراً وملموساً. وهي حالياً تعطي مؤشرات على أنها تريد أن تسير في هذا الاتجاه. مشكلة إيران في نظامها السياسي الثيوقراطي، وهو نظام سيشكل قيداً على هذه الحركية والحيوية، ويضع حدوداً لما يمكن أن تذهب إليه خارج النطاق العلمي والتكنولوجي. وهذا أمر قد يؤدي إما إلى إجهاض هذا الحراك، أو إلى صدام بين القوى والمصالح المرتبطة به من ناحية، والنظام السياسي من ناحية أخرى، مما قد يتسبب في انفجار النظام السياسي نفسه من الداخل، وبالتالي يعطي مجالاً أوسع لتلك الحيوية بأن تأخذ مداها، وتؤتي أوكلها. في كل الأحوال، ما يحدث في إيران يعكس حيوية لم تكن معروفة من قبل. والشاهد هنا أنه لا يمكن القول بوجود شيء مشابه في العالم العربي، سواء تحدثنا في ذلك عن الحيوية والتطور في إسرائيل أو الحيوية الإيرانية. في العالم العربي هناك تطورات تنموية، خاصة في البنية التحتية، لكن مقابل ذلك هناك جمود فكري وسياسي غير مسبوق، إلى جانب قدرة واضحة على إعادة إنتاج هذا الجمود طوال أكثر من سبعة قرون. تبقى تركيا النموذج الأكثر نجاحاً، والأكثر قدرة على فضح التجربة العربية. فتركيا دولة سنية، وكانت تحكم العالم العربي باسم الإسلام، وكانت تعتبر من قبل كثيرين من العرب أحد أهم أسباب تخلفهم. تخلت تركيا عن الخلافة، وفصلت الدين عن الدولة، وألغت الحروف العربية من لغتها. بدا حينها أن الدولة التركية في حالة صدام مع الإسلام. احتج العرب وقتها على كل ذلك، لكنهم لم يتجاوزوا حدود الاحتجاج والشكوى. الأسوأ أنهم كانوا يريدون إعادة الخلافة، أو العودة إلى الوراء. وشاب احتجاج بعض زعمائهم شبهة انتهازية. كل واحد من هؤلاء، مثل الشريف حسين والملك فاروق، كان يطمح أن يكون هو خليفة المسلمين القادم. وهاهي تركيا بعد سبعين سنة تعيد النظر في تجربتها السياسية، وتعمل من خلال التيار الإسلامي على تحقيق التصالح بين الإسلام والعلمانية، أو بين الإسلام والدولة، ومن ثم بين الإسلام والعصر. انطوت الانتخابات التركية، النيابية والرئاسية، على طموحات وتحولات كبيرة. كيف تبدو التجارب السياسية العربية؟ في سوريا يورث الأب الحكم لابنه تحت مظلة دستور الجمهورية، وفي مصر رائدة النهضة العربية يتكرس النظام السياسي بأكمله لتهيئة عملية التوريث ذاتها. وفي اليمن يكرس الرئيس هناك حكمة "رئيسنا إلى الأبد". أما في ليبيا فقد اختزل "قائد الثورة" الدولة والثورة معاً في شخصه ويعمل على توريثها لابنه أيضاً. كانت هذه الدول تنتمي إلى ما كان يعرف بالدول "التقدمية". أما في لبنان فيهدد الاستحقاق الرئاسي وجود الدولة ذاته. أعد النظر، ولاحظ كيف انتهت علمانية أتاتورك، وكيف انتهى إسلام العرب وتقدميتهم.