الظلام الذي يخيم على المشهد السياسي اللبناني ليس قدراً محتوماً. الفكاك منه ممكن، والإضاءة ليست مستحيلة. وإذا كان الظلام قد انتشر على مدى شهور طويلة في هذا المشهد الذي بدا أنه يتحول يوماً بعد يوم إلى نفق مظلم، فقد تبين أخيراً أنه في الإمكان التطلع إلى ضوء ما في هذا النفق. وجاء الأمل في إضاءة النفق الآخذ في الإظلام من تزامن تطورين مهمين أحدهما سياسي والثاني عسكري في الأيام الأولى من الشهر الجاري. سياسياً، جاءت مبادرة رئيس مجلس النواب وأحد أهم زعماء معسكر "8 آذار" نبيه بري، لتعيد الأمل في إجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها الدستوري الذي يبدأ في 23 سبتمبر الجاري، ويمتد حتى 25 نوفمبر القادم. عرض بري، في مبادرته، إزالة عقبة كؤود كان قد وضعها هو وحلفاؤه أمام الاستحقاق الرئاسي، في مقابل تخلي المعسكر الآخر، "14 آذار"، عن نزوع بعض قادته إلى الاستئثار بمنصب الرئاسة. وتقوم المبادرة، على هذا النحو، على تخلي معسكر "8 آذار" عن مطلب تشكيل حكومة وحدة وطنية يكون لأطراف هذا المعسكر فيها الثلث الضامن أو المعطل قبل انتخاب الرئيس الجديد، في مقابل إقرار 14 آذار بأن يكون انتخاب هذا الرئيس بأغلبية الثلثين وليس الأغلبية المطلقة (النصف + 1) بما يعنيه ذلك من ضرورة التوافق على اسمه. ولم يمض يومان على إعلان هذه المبادرة، التي حملت في طياتها ضوءاً خافتاً، حتى أنهى الجيش اللبناني عملياته العسكرية في مخيم نهر البارد بالقضاء على مجموعة "فتح الإسلام". فكان اللبنانيون في أمس الحاجة إلى مثل هذا الانتصار، بغض النظر عن مدى أهميته الفعلية، ليذكرهم بالوطن الذي كانت صورته آخذة في الاختفاء كلما ازداد الظلام في سمائه. كان انتصار الجيش اللبناني محملاً بدلالات رمزية وطنية متجاوزة للطوائف في لحظة تكتسب فيها الرموز أهمية فائقة. ولذلك أعطى التطور العسكري قوة دفع للتطور السياسي الذي يواجه، مع ذلك، عوائق كبيرة ناتجة في معظمها عن أزمة عدم الثقة التي خلقت سوراً هائلاً بين معسكري 8 و14 آذار. وما كان لمبادرة تمثل فرصة نادرة لإنقاذ لبنان من تصعيد قد يقود إلى حروب داخلية جديدة، أن تُقابل بفتور من جانب بعض قادة 14 آذار وشكوك من بعض آخر إلا لأن أزمة عدم الثقة وصلت إلى المنتهى. فالمبادرة إيجابية في محصلتها الأخيرة من ثلاث زوايا على الأقل. الأولى أنها تزيل عقبة حكومة الوحدة التي وضعها معسكر 8 آذار. وقد نظر بعض قادة 14 آذار إلى التخلي عن شرط حكومة الوحدة باعتباره تنازلاً ممن لا يملك عما لا يحق له أن يتمسك به. وقد يكون هذا التكييف لموقف 8 آذار تجاه حكومة الوحدة صحيحاً من حيث المبدأ، لكنه ليس صائباً من حيث تداعياته السياسية. فهذا موقف معطل للاستحقاق الرئاسي، ومشكك في شرعية حكومة فؤاد السنيورة. وإذا أمعن قادة 14 آذار النظر في مبادرة بري لوجدوا أن تفعيلها يقدم لها مكسباً صافياً هو نزع الشكوك في شرعية حكومة السنيورة التي يؤيدونها. وهذا فضلاً عن الكسب الوطني العام الذي يجنيه لبنان -كل لبنان– من التوافق على انتخاب رئيس جديد، تم اختياره بالتوافق. وهذا التوافق هو الإيجابية الثانية المهمة في المبادرة التي تعيد له الاعتبار بعد أن بدا أنه غادر لبنان في اتجاه واحد بلا عودة. فكان أكثر ما جعل الظلام مخيماً على سماء المشهد السياسي اللبناني هو اتجاه كل من المعسكرين المتصارعين إلى رفع سقف موقفه إلى الحد الأقصى، على نحو يستحيل معه الوصول إلى حل وسط لأي خلاف من الخلافات التي صنعت الأزمة، ومن بينها الاستحقاق الرئاسي. وعندما يصل الاستغراق في الحد الأقصى إلى هذا الحد، تصبح العودة عنه صعبة والبحث عن نقطة للالتقاء في منتصف الطريق عسيراً. ولذلك فإحدى أهم إيجابيات مبادرة بري، هو أنها فتحت الباب أمام خفض السقف والعودة عن الحد الأقصى عبر إبداء الاستعداد للتنازل عن مطلب حكومة الوحدة الوطنية. وهذه الإيجابية الثانية تتيح فرصة لانتخاب رئيس توافقي لا ينتمي إلى أي من المعسكرين، ولكنه يحظى بقبولهما معاً، أو برضا معظم أطرافهما. ومن الطبيعي أن "حزب الله" وحركة "أمل" لن يقبلا رئيساً معادياً لسوريا، في حين أن "تيار المستقبل" وحلفاءه في 14 آذار لن يقبلوا رئيساً تابعاً لدمشق. فإذا أمكن حل العقدة السورية، بعد الاتفاق على رئيس لا يعادي دمشق ولا يخضع لها، يكون التوافق اللبناني قد قطع شوطاً كبيراً إلى الأمام لأن هذه العقدة هي الأكثر استحكاماً من بين المؤثرات الخارجية الإقليمية والدولية. وعندما يتحقق التوافق المأمول على هذا النحو، سيؤدي إلى إيجابية ثالثة هي إعادة تفعيل الوسط التجاري وتحريك آلته المالية والاقتصادية، بعد إنهاء الاعتصام الذي تنظمه قوى 8 آذار في وسط بيروت منذ عدة أشهر. ولذلك تستحق مبادرة بري تعاملاً جدياً معها من قوى 14 آذار، لأنها قد تكون الفرصة الأخيرة لإنقاذ لبنان من حرب داخلية قد يقود إليها التصعيد المتبادل في مناسبة الاستحقاق الرئاسي. ويقتضي ذلك وضع حد للشكوك المتبادلة التي يمكن أن تدمر أي مبادرة إذا ما استسلم لها المعسكران. وحتى في حالة تعذر التوافق على اسم مقبول لكليهما لولاية كاملة تستمر ست سنوات قادمة، فليكن توافقاً على رئيس انتقالي لفترة قصيرة قد لا تزيد على عام واحد يتم خلاله إجراء انتخابات برلمانية بقانون جديد يتم التوافق عليه. فالمهم هو إعطاء أسبقية قصوى للسعي إلى أي نوع من التوافق من أجل كبح الاندفاع نحو التصعيد المتبادل الذي يحمل في طياته خطر الحرب الداخلية، خصوصاً وأن أدوات هذا التصعيد جاهزة. وقد سبق طرح بعضها في صورة تهديدات متبادلة. وأهمها تهديد بعض قوى 14 آذار بانتخاب رئيس بأغلبية (النصف + 1) وليس بأغلبية الثلثين، الأمر الذي سيؤدي إلى رد فعل حاد من المعسكر الآخر قد يأخذ صورة حشود جماهيرية واسعة لمنع تحرك النواب الذين سيُدعَون لهذا الانتخاب. وإذا ردت هذه القوى بحشود مماثلة، قد تكون هذه بداية الحرب لأن الشارع سيضيق هذه المرة عن استيعاب جماهير المعسكرين. والأرجح أن تحدث احتكاكات بين جماهير من هنا ومن هناك، وأن تتحول إلى اشتباكات قد يستخدم فيها السلاح، خصوصاً في ظل حالة الشحن المعنوي المتزايد في أوساط كل من المعسكرين. ولا يقل خطراً عن ذلك تهديد بعض أطراف 8 آذار بتشكيل حكومة ثانية تتسلم الرئاسة من الرئيس إميل لحود الذي أبدى هو شخصيا استعداده للمبادرة بذلك. وإذا حدث ذلك، فهو يؤدي إلى حالة تقسيم فعلي يرجح أن تقود إلى حرب داخلية. وهكذا يبدو شبح الحرب مخيماً في حالة عدم حدوث التوافق على الرئيس الجديد انطلاقاً من مبادرة بري التي تمثل ضوءاً خافتاً في النفق اللبناني المظلم.