كان المشهد عجيباً: الأيدي المتوضئة تمسك بالهراوات الغليظة وترفعها عالياً ثم تهوي بها بقوة على الأيدي المتوضئة أيضاً. فللمرة الأولى يواجه الإسلام السياسي خصماً ذكياً ينازله بسلاحه هو: الوضوء والصلاة والله أكبر. حصل ذلك لأن الإسلام السياسي لم يضع إعلاناً في الصحف يحفظ حقوقه في ماركته الشهيرة "تسييس الدين". صحيح أن الماركة مقرونة باسمه عرفاً، لكنها غير مسجلة قانوناً، والقانون لا يحمي المغفلين حتى لو كانوا من "الإخوان المسلمين"، وبالتالي فإن حقوق "حماس" غير محفوظة، ولا يحق لها الاعتراض على "فتح" التي دعت أنصارها إلى إقامة صلاة عامة في ساحات الضفة والقطاع يوم الجمعة لأن الخطباء "الحمساويين" يستغلون المساجد للتحريض على السلطة الفلسطينية، وهي الصلاة التي اعتبرتها "حماس" تطويعاً للدين لخدمة السياسة. قامت قيامة "حماس" على صلاة "فتح" الأولى، وتصدت قوتها التنفيذية لمسيرات الاحتجاج التي أعقبت الصلاة بالهراوات ومن ثم بالاعتقال الابتزازي، أي اشتراط دفع 250 دولاراً مقابل كل مصلٍ يفرج عنه. ومنعت "حماس" إقامة صلاة "فتح" الثانية بالغاز المسيل للدموع والرصاص والهراوات والاعتقال الذي طال صحافيين ومصورين، بعد أن حصلت على فتوى من رابطة علماء فلسطين في غزة تقول إن "هذه الصلاة خطيرة ولا يجوز لأحد المشاركة فيها... ومعلوم عن الكثيرين ممن يشاركون فيها أنهم ليسوا من أهل الصلاة، وإنما جاءوا للتخريب والعبث... لذلك فإنه من الواجب منع هذه الصلاة وجعلها في المساجد". ورد قاضي قضاة فلسطين ورئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي بجواز الصلاة في العراء والساحات العامة، وأن الفتوى بعدم الجواز لا تستند إلى نص أو دليل شرعي، وأن السنة النبوية القولية والفعلية نصت صراحة على جواز الصلاة في أي مكان. وكان هذا رأي الأزهر أيضاً. وقد يكون كل ما قيل عن صلاة الفتحاويين صحيحاً، خصوصاً أن لرابطة علماء فلسطين "الحمساوية" اتصالا مباشرا مع الملأ الأعلى، يعرفون من خلاله نية المصلين، وهم في مطلق الأحوال لا ينتظرون فتاوى الأزهر وإنما فتاوى قم... وصحيح أيضاً أن الإسلام السياسي يرفض استغلال خصومه للأدوات التي تعب هو في ابتكار استغلالها مثل المنابر والمساجد والحجاب وغيرها. واستغلال خصوم الإسلام السياسي للصلاة، يشبه تماماً استغلال الإسلام السياسي للديمقراطية، فهو قفز إلى سفينة الديمقراطية على الرغم من عدم إيمانه بالديمقراطية التي قد تأتي بجماعات لا تمشي مثله على الصراط المستقيم، ولا يجوز قبول تسلّط الأقل ديناً على الأكثر ديناً، لأنهم الأعلون والولاية لا تكون إلا للمؤمنين. لكن الغاية تبرر الوسيلة، فقد أدرك الإسلام السياسي أن سفينة الديمقراطية، ولا سفينة غيرها، هي التي تستطيع أن توصله إلى برّ السلطة بسلام، بعد أن أبحر كثيراً كالقراصنة في سفن العنف والإرهاب وكاد أن يغرق لولا أن أعلن لسانه الإيمان بالديمقراطية في اللحظات الأخيرة، فنجى ولم ينته غريقاً مثل فرعون، أستاذ المدّعين الذي غرق رغم لقلقة لسانه بكلمات الإيمان. إذا أراد الإسلام السياسي حفظ حقوقه في ماركته غير المسجلة "تسييس الدين"، عليه أن يبادر فوراً إلى تسجيله لدى الجهات المختصة ليحق له بعد ذلك ملاحقة كل من يصلي أو يهتف "الله أكبر".