في الأسابيع القليلة الأخيرة تصادف أن زرت مدينتي الدوحة وداليان. ويجب أن أعترف بأني أصبت بالذهول. وقبل أن أشرح السبب دعوني أفترض أن بعضكم ربما لم يزر الدوحة ولا داليان في الآونة الأخيرة على الأقل، بل من المحتمل أنكم لم تسمعوا بهما قط. فالدوحة هي عاصمة قطر، البلد الصغير الواقع إلى الشرق من السعودية، أما داليان فهي مدينة تقع إلى الشمال الشرقي من الصين وتعد بمثابة "وادي سيلكون" جديد بما تستضيفه من شركات متخصصة في برمجيات الكمبيوتر، فضلاً عن الدور الذي يلعبه عمدتها "كزيا ديرين" المهتم بالتكنولوجيا. لكن ما أذهلني فعلاً هو أني لم أرَ المدينتين لأكثر من ثلاث سنوات، وعندما زرتهما في هذه المناسبة، بالكاد تعرفت عليهما. فمنذ أن كنت في الدوحة قبل ثلاثة أعوام، شاهدت في الأفق خطاً متصاعداً من البنايات شبيه بمانهاتن صغيرة نبتت في الصحراء. ويبدو أنه ما لا تستطيع أن تجده في الصين اليوم من رافعات البناء ستجده في الدوحة، لكن هذا الميناء الذي كان هادئاً في الماضي، بات يعج اليوم بناطحات السحاب، وذلك بفضل الإيرادات الضخمة من النفط والغاز الطبيعي. أما داليان التي كانت حين زرتها قبل ثلاث سنوات تشبه مانهاتن فعلاً، فقد تضاعف نموها مرتين وأصبحت تتوفر على مجمع لعقد المؤتمرات أقيم على شبه جزيرة اصطناعية. لكن، مع الأسف، ليست هذه مقالة في أدب الرحلة، بل مقالة عن قضايا الطاقة، لذا فإن أردتم أن تعرفوا لمَ أظل متشككاً في مسألة المناخ- ولا أقصد أني أشك في حقيقته العلمية الثابتة، بل في جدوى ما نقوم به للتخفيف من أضراره- فإن الدوحة وداليان تجيبان عن السؤال. فهل يمكنكم تصور كمية الطاقة التي ستستهلكها ذلك العدد من ناطحات السحاب الجديدة التي يتم تشييدها في مدينتين لم تسمعوا بهما من قبل، وحجم ثاني أوكسيد الكربون الذي ستطلقانه في الأجواء؟ لست هنا بصدد إلقاء اللوم على المدينتين، فقد تمكنتا على كل حال من انتشال السكان هناك من الفقر وإتباع النموذج ذاته في النمو المعتمد على الطاقة الذي تقوده أميركا. فنحن في الولايات المتحدة الأميركية مازلنا أكبر مستهلك للطاقة في العالم، لكننا بدأنا ننتج نسخاً شبيهة لنا حتى في الأماكن التي لم نسمع بها من قبل. أجل إن "الأميركيين" أصبحوا في كل مكان من حولنا، إنهم هؤلاء الأشخاص الذين كانوا في السابق يعتمدون على نمط حياة قائم على استهلاك ضئيل للطاقة وأصبحوا اليوم، إما بفضل الثروة النفطية أو الاجتهاد في العمل، يتبنون نمط الحياة الأميركي من شقق وسيارات وغيرها من الأدوات والوسائل الكمالية. وبالطبع لا يستطيع كوكبنا تحمل هذا العدد الكبير من "الأميركيين"، إلا إذا عملنا على تغيير الأسلوب الأميركي في التعامل مع الطاقة. ولا بد هنا من التنبيه إلى أمر مهم هو أنه في الوقت الذي كان فيه العالم يستهلك حوالي 66.6 مليون برميل من النفط يومياً في عام 1990، أصبح يستهلك اليوم 83 مليون برميل في اليوم. وفي هذا الإطار صرح "مارجو أوجي"، مدير مكتب النقل وجودة الهواء بوكالة حماية البيئة، على هامش مؤتمر حول السيارات الخضراء عقد في الصين وحضرته، قائلاً: "لقد ارتفع الطلب الأميركي على النفط بحوالي 22% منذ 1990، فيما ارتفع الطلب الصيني عليه في نفس الفترة بنسبة 200%"، مضيفاً أنه "بحلول عام 2030، يتوقع أن يزداد الظمأ العالمي الى النفط بحوالي 40% إذا لم نغير أسلوب حياتنا". هذه الشهية المفتوحة على استهلاك مزيد من النفط، من شأنها ابتلاع كل مبادرة ترمي إلى حماية البيئة. وإذا كنت بالفعل سعيداً، فذلك لأن الناس بدؤوا يستخدمون مصابيح كهربائية أقل استهلاكاً للطاقة في بيوتهم، إلا أن النمو الحاصل في الدوحة وداليان، يبدد كل ما تم ادخاره من طاقة. وبنفس الطريقة تلتهم المدينتان كافة الجهود المبذولة مثل استخدام السيارات الهجينة، أو مناقشة الكونجرس الأميركي ما إذا كان مجدياً تحديد استهلاك السيارات في الميل الواحد لتعادل المستويات الأوروبية مع حلول عام 2020. ومع تقديري للزيادة المطردة في الاعتماد على طاقة الشمس والرياح التي تشكل حالياً 2% من إجمالي إنتاج الطاقة في الولايات المتحدة، إلا أن الدوحة وداليان ستلتهمان تلك الجهود في وجبة عشاء. ولن ينفع في شيء العمل بالنصائح التي توردها المجلات لترشيد استهلاك الطاقة، لأنه مع الدوحة وداليان فإن كل ذلك ستذروه الرياح. لكن كما قلت سابقاً، لا يتعلق الأمر بالمدينتين فقط، بل هو يمسنا نحن الأميركيين أيضاً. وفي هذا السياق أخبرني "بيتر باكير"، المدير السامي لشركة "تي. إن. تي" المتخصصة بنقل الطرود في أوروبا، والتي احتلت المرتبة الأولى في مؤشر "داو جونز" فيما يتعلق بممارساتها البيئية قائلاً "إننا نشغل 35 ألف شاحنة و48 طائرة في أوروبا. وقد اشترينا للتو طائرة بوينج 747 ستقوم بتسع رحلات في الأسبوع بين الصين ومقرنا في بلجيكا، حيث ستغادر الطائرة أوروبا نصف ممتلئة لتعود من الصين مشحونة عن آخرها بأجهزة الكمبيوتر وغيرها. وحسب تقديراتنا فإن الرحلات الجوية التي تتم بيننا وبين الصين ستستهلك لوحدها من الطاقة ما تستخدمه طائراتنا الثماني والأربعين داخل أوروبا، كما ستطلق كميات أكبر من ثاني أوكسيد الكربون". ولهذا السبب أقول بأننا نخدع أنفسنا عندما نتحدث عن ثورة خضراء، وحتى إذا ما كانت هناك ثورة فعلاً فهي في الاتجاه المعاكس. إنه من دون خرق تكنولوجي مهم في مجال الطاقة، فإن جميع الجهود المبذولة لحماية البيئة سيلتهمها النمو الذي يحققه "الأميركيون" القدامى والجدد! ـــــــــــــــ كاتب ومحلل سياسي أميركي ـــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"