اهتممنا عبر سلسلة طويلة من المقالات بظاهرة التطرف الإيديولوجي، وحاولنا فيها تأصيل المشكلة، وإبراز أن هذا التطرف -أياً كانت نوعيته- هو المقدمة الضرورية للسلوك الإرهابي. وذلك على أساس أن العقل الديني التقليدي الذي عادة ما يفرز التطرف الإيديولوجي، هو المرحلة الأساسية في بناء العقل الإرهابي. والعقل الإرهابي تبدو خطورته في أنه يبيح لأنصاره تأويل النصوص الدينية من آيات قرآنية وأحاديث نبوية، لكي تتفق مع أهداف الجماعات الإرهابية. وهذه الأهداف تتمثل في هدف أسمى وهو الانقلاب على الدولة العربية المعاصرة وإنشاء دولة دينية على أنقاضها، بالإضافة إلى الهيمنة على المجتمع من خلال تشكيل فرق خاصة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تقوم على قمع الجماهير، وإجبارها على تطبيق ما تراه من سلوكيات، تتفق مع رؤيتها للعالم التي تتسم بالتشدد والانغلاق والرجعية. وقد أكدنا أكثر من مرة أن الفارق الجوهري بين الدولة الدينية والدولة المدنية أن الأولى تقوم على الفتوى التي يصدرها رجال الدين، وأن الثانية تقوم على التشريع تحت رقابة الرأي العام. والدولة المدنية هي في الواقع الدولة الحديثة التي شهدتها المجتمعات المتقدمة، والتي تم تأسيسها في ضوء موجِّهات الحداثة الأوروبية أساساً. وهذه الحداثة كان لها شعار شهير هو "أن العقل هو محك الحكم على الأشياء". بعبارة أخرى أن النص الديني المسيحي أزيح من مكانه المركزي بعد قيام أوروبا بثورتها الثقافية ضد الكنيسة، نتيجة لتعسفها وسيطرتها الرجعية على مجمل الفضاء العام. وتمت هذه التحولات الكبرى تطبيقاً لمبدأ العلمانية والذي هو -بكل بساطة- فصل الدين عن الدولة، وليس فصل الدين عن المجتمع، كما يزعم نقاد العلمانية من أنصار الجماعات الإسلامية المتشددة. وقد أكدنا في عديد من كتاباتنا أن الهدف الأسمى لكافة الحركات الإسلامية معتدلة كانت أم متشددة، هو تأسيس حكومات دينية تحكم بمقتضى فهمها الخاص للشريعة الإسلامية، وتجعل آراء الفقهاء -أياً كانت توجهاتهم- هي معيار الحكم على الأشياء، وليس العقل ومراعاة الظروف الدولية والإقليمية والمحلية المتغيرة، كما تفعل الدول الحديثة. وقد حرص عديد من الجماعات الإسلامية -وخصوصاً في الحقبة الأخيرة- على نفي أنها تسعى إلى إنشاء حكومات دينية، وأنها على العكس ترفع الآن علم الديمقراطية على النسق الغربي، بدلاً من شعار الشورى الإسلامي التقليدي، وأنها تؤمن بالحكومة المدنية، وترفض صيغة الحكومة الدينية. والواقع أن تحليل خطاب هذه الجماعات الإسلامية المتشددة والمتنوعة، سواء في المشرق أو المغرب أو الخليج، يؤكد بلا أدنى لبس أن هدفها الحقيقي الذي تحاول ستره باصطناع شعارات معاصرة كالديمقراطية، هو إقامة الدولة الدينية بحسب التعريف الذي وضعناه لها في صدر المقال. ويؤكد ذلك تماماً برنامج جماعة "الإخوان المسلمين" في مصر (الإصدار الأول في 25 أغسطس 2007)، والمنشور على شبكة "إسلام أون لاين" في 26 أغسطس 2007. وهذا البرنامج يتكون من خمسة أبواب وهي مبادئ وتوجهات الحزب، الدولة والنظام السياسي، التعليم والتنمية والسياسة الاقتصادية، العدالة الاجتماعية، النهضة الثقافية، وينقسم كل باب إلى فصول. ويعنينا هنا الباب الأول "مبادئ وتوجُّهات الحزب"، وعلى وجه الخصوص الفصل الثالث "السياسات والاستراتيجيات"، حيث نصت الفقرة الثالثة بكل وضوح على أن هدف "الإخوان المسلمين" هو تأسيس دولة دينية في مصر تقوم على الفتوى ولا تقوم على التشريع. وورد في الفقرة الثالثة ما نصه: "تطبق مرجعية الشريعة الإسلامية بالرؤية التي تتوافق عليها الأمة من خلال الأغلبية البرلمانية في السلطة التشريعية المنتخبة انتخاباً حراً بنزاهة وشفافية حقيقية دون تدليس ولا تزوير ولا إكراه بالتدخل الأمني المباشر أو المستتر، والتي تتم تحت رقابة المؤسسات المدنية داخلية وخارجية، وبعيداً عن هيمنة السلطة التنفيذية". وتضيف إلى هذه الفقرة المهمة ما يعد ميثاقاً لتأسيس الدولة الدينية في مصر ما نصه: "ويجب على السلطة التشريعية أن تطلب رأي هيئة من كبار علماء الدين في الأمة على أن تكون منتخبة أيضاً انتخاباً حراً ومباشراً من علماء الدين ومستقلة استقلالاً تاماً وحقيقياً عن السلطة التنفيذية في كل شؤونها الفنية والمالية والإدارية، ويعاونها لجان ومستشارون من ذوي الخبرة وأهل العلم الأكفاء في سائر التخصصات العلمية الدنيوية الموثوق بحيدتهم وأمانتهم، ويسري ذلك على رئيس الجمهورية عند إصداره قرارات بقوة القانون في غيبة السلطة التشريعية، ورأي هذه الهيئة يمثل الرأي الراجح المتفق مع المصلحة العامة في الظروف المحيطة بالموضوع. ويكون للسلطة التشريعية في غير الأحكام الشرعية القطعية المستندة إلى نصوص قطعية الثبوت والدلالة القرار النهائي بالتصويت بالأغلبية المطلقة على رأي الهيئة، ولها أن تراجع الهيئة الدينية بإبداء وجهة نظرها فيما تراه أقرب إلى تحقيق المصلحة العامة، قبل قرارها النهائي ويتم، بقانون، تحديد مواصفات علماء الدين الذين يحق لهم انتخاب هيئة كبار العلماء، والشروط التي يجب أن تتوافر في أعضاء الهيئة". ومعنى ذلك أن السلطة التشريعية يجب عليها أن تخضع لسلطة هيئة من كبار علماء الدين. وأخطر من ذلك كله تقرر هذه الفقرة التأسيسية لحكومة دينية أن رئيس الجمهورية عند إصداره قرارات بقوة القانون في غيبة السلطة التشريعية لابد له أن يعرض قراراته على هذه الهيئة الدينية. إن لم تكن هذه هي الحكومة الدينية فماذا تكون؟ لقد نسي واضعو برنامج "الإخوان المسلمين" أن المادة الثانية من الدستور توجه خطابها إلى المشرِّع وليس غيره، حين تقرر أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع. وبذلك لا يجوز وفقاً للدستور أن تخضع السلطة التشريعية لأي هيئة أخرى دينية كانت أو غير دينية. ولكن البرنامج في فقرته الرابعة يخضِع قرارات رئيس الدولة للفحص بواسطة لجنة كبار الفقهاء. وهو تعسف واضح في تفسير المادة الثانية من الدستور المصري. بل إن البرنامج يبيح لكل ذي مصلحة -أياً كانت- الطعن أمام المحكمة الدستورية على أي من هذه القوانين والقرارات والسياسيات بمخالفاتها لأحكام الشريعة الإسلامية المتفق عليها من جمهور الفقهاء المعاصرين المعتد بآرائهم. ومما يثير الدهشة أن البرنامج (ص 14) تحت عنوان "دولة مدنية"، يقرر ما نصه "الدولة الإسلامية هي دولة مدنية بالضرورة.."... الخ. مع أنه قد أقام قاعدة متينة للدولة الدينية فيما سبق ذلك من فقرات. وهكذا يتضح الوجه الحقيقي لجماعة "الإخوان المسلمين"، فهي كغيرها من الحركات الإسلامية تسعى إلى قلب نظام الحكم القائم في الدولة العربية المعاصرة وذلك لتأسيس الدولة الدينية التي يحكمها كبار رجال الدين. هذه الحقيقة نهديها للمتعاطفين مع الجماعة، والذين يدعون إلى إدماجها في النظام السياسي على أساس أنها تؤمن بالديمقراطية والدولة المدنية!