أرسى الرئيس بوش مستقبل الحرب العراقية بصرف النظر عن موقف الأغلبية الأميركية المعادية لهذه الحرب حسبما أظهرته نتائج انتخابات الكونجرس التي أجريت في العام الماضي. وعليه فستستمر هذه السياسات كما هي إلى أن يخلف بوش في منصبه رئيس أميركي جديد، على افتراض عدم حدوث أي تحول دراماتيكي مفاجئ في مسار الأحداث والتاريخ. فما لم تحدث أي من هذه المفاجآت، فإن من المرجح أن تستمر سياسات وخطط الحرب كما هي، سواء في ظل إدارة بوش الحالية، أو في إدارة أي رئيس سيئ الحظ يخلفه في البيت الأبيض. وفيما نرى من مقترحات سياسات الحرب المنسوبة إلى المرشحين الرئاسيين الحاليين، فليس ثمة مؤشرات تدل على احتمال تغيير يذكر في السياسات المطبقة حالياً في العراق. ذلك أن الحرب نفسها تظل "صراعاً من أجل اللاشيء وعن لا شيء وفي اللاشيء" أيضاً كما قال "فريتجوف ناسين"، مستكشف المحيط القطبي والعالِم ورجل الدولة النرويجي ذات مرة في وصف الكشوفات العلمية المتعلقة بالمناطق القطبية. وما الاختلاف الوحيد بين هاتين الحالتين سوى أن الحرب العراقية، ستصرع المزيد من الآلاف أو تبتليهم بإعاقات مستديمة خلال العامين المقبلين، بينما يظل الكونجرس والصحافة الأميركية عالقين على جدول الروزنامة السياسية. ففي البدء كان ممكناً التفكير في أن هذه الحرب كانت قد شنت لأهداف معقولة وجديرة بخوض المغامرة العسكرية فيها، على الأقل من وجهة نظر الرئيس بوش ونائبه ديك تشيني وغيرهما، في مقدمتها تحقيق مخطط الشرق الأوسط الكبير- وإن لم تكن تلك الأهداف معقولة ولا جديرة بالمغامرة في واقع الأمر- المهم أن ذلك هو التبرير الذي قدم لاحقاً، ما أن مضت بضعة أشهر على الاحتلال، وبدا واضحاً أن الوضع العراقي قد بات خارجاً عن السيطرة، وكان لا بد من تقديم تبرير أكثر إقناعاً لما يجري هناك. وعليه فقد كان الافتراض أن تدور هذه المغامرة العسكرية حول التحرير والتحول الديمقراطي والدفع بعجلة الإصلاح السياسي في المنطقة، بدءاً بالإطاحة بطاغية طالما نظر إليه في واشنطن على أنه عدو لدود لإسرائيل والولايات المتحدة، إلى جانب ما لحق من اتهامات تتعلق بمحاولته قتل الرئيس الأسبق بوش الأب. لكن ووفقاً للتصريحات الأخيرة لبعض "المحافظين الجدد" الذين كانت لهم اليد الطولى في التخطيط للحرب ودق طبولها، فقد شنت تلك الحرب بدافع الواقعية المحضة، في تحد سافر وساحق لإرادة الخصوم "الليبراليين". أما هدفها، فقد تمحور حول تدشين سياسة خارجية جديدة إزاء العلاقات الأميركية-الإسرائيلية، إلى جانب بسط هيمنة واشنطن على هذه المنطقة الغنية بالنفط. ولنضرب مثلاً لهذا بما قاله "بول وولفوفيتز" أثناء جولة آسيوية أخيرة له، رداً على سؤال وجه إليه بشأن المغزى من تلك الحرب:"العراق يسبح في سطح بركة نفطية". لكن وبعد مضي أربع سنوات ونصف على شن الحرب، فقد تعين على الجنرال "بيترايوس" وزميله الدبلوماسي "رايان كروكر" الاعتراف علناً بأنه لم يعد هناك من هدف يجب السعي إلى تحقيقه أكثر من الاستمرار في بقاء القوات درءاً لانزلاق العراق إلى ما هو أسوأ مما هو عليه الآن. والملاحظ أن كليهما قد فشل في تحديد المدة الزمنية اللازمة لاستمرار بقاء القوات، إلى جانب فشلهما في الحكم على ما إذا كان هذا البقاء سيجعل من أميركا بلداً أكثر أمناً وسلامة. وهل من حاجة للسؤال عن هذا أصلاً؟! أضف لذلك كله أن الحكومة العراقية الحالية لم تتمكن بعد من إجازة تشريعات الخصخصة، وهي التشريعات التي يتوقع لها أن تضع صناعة النفط العراقي تحت السيطرة الأميركية بعيدة المدى. بل الذي حدث أن الحكومة العراقية قد أمرت مؤخراً شركة "بلاك ووتر" للخدمات الأمنية الخاصة، بمغادرة البلاد، على الرغم من أن جزءاً من مهام الحرب الأميركية الجارية قد عهدت إليها. وفيما لو تم تنفيذ هذا الأمر الصادر عن الحكومة العراقية، فإن ذلك يعني أن السفير الأميركي في بغداد، قد ترك مكشوفاً وعارياً من دون أدنى حماية أمنية أمام العراقيين. وأخيراً أصل إلى "آلان جرينسبان"، المحافظ السابق لبنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، الذي ألّف كتاب "تنبؤات عن إدارة بوش"، وذهب فيه إلى أن هذه الإدارة ستضع النفط العراقي في المستقبل تحت سيطرة شركات النفط الأميركية لمدة طويلة من الوقت. وفي الكتاب نفسه قال "جرينسبان" إن الحرب العراقية كلها لم تدر حول أي شيء آخر سوى السيطرة على الثروة النفطية. بل تطوع "جرينسبان" بالقول صراحة إنه قد حث الإدارة من جانبه على إسقاط نظام صدام حسين بغية تأمين بسط الولايات المتحدة لسيطرتها على النفط العراقي. غير أنه لا "جرينسبان" ولا أولئك الذين علقوا على كتابه لاحظوا أن ما قاله المؤلف، ليس سوى لغة وافتراضات وأساليب مرتكبي الإجرام الدولي لا أكثر. ويذكرني هذا في نهاية الأمر باقتصادي آخر ومحافظ لبنك مركزي، أراد قائده شن حرب، إلا أنه اعترض عليها منطلقاً من ضميره الحي اليقظ. ذلك هو "هجالمار سشاكت"، فقد عيّن هذا الأخير وزيراً للاقتصاد الألماني في عام 1935، ثم وزيراً بلا حقيبة وزارية فيما بعد. وعلى رغم ذلك فقد اختلف "سشاكت" مع القائد النازي هتلر، ما أن أدرك أن هدفه هو شن حرب مدمرة لا تبقي ولا تذر، وليس لتدشين حملة لإعادة البناء الوطني كما أعلن. فذاك اقتصادي أميركي يحض رئيسه على غزو الدول الأخرى لنهب ثرواتها، وهذا وزير ألماني يغادر منصبه إدانة منه لشن الحروب على الدول الأجنبية واحتلالها! ــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع "تريبيون ميديا سيرفيز"