بعد أن قضيت أسبوعاً كاملاً من الاجتماعات المشتركة مع خبراء صينيين في مجالات الطاقة والبيئة والسيارات النظيفة غير الملوثة للبيئة، خرجت وأنا في ذهني سؤال واحد مسيطر علىّ: هل يمكن للصين أن تتجه نحو الخضرة من دون أن تصبح برتقالية يوماً؟ بعبارة أخرى هل تستطيع الصين حقاً التعهد بتحقيق ثورتها الخضراء في مجالي الطاقة والبيئة التي هي في أمسّ الحاجة إليها، من دون أن تدفع مواطنيها إلى القيام بتغيير سياسي جذري شامل على نحو ما حدث في الثورة البرتقالية التي شهدتها أوكرانيا عام 2004؟ وكلما رأيت الصين وهي تعاني كل هذه المعاناة مع قضايا البيئة، كلما ازدادت قناعتي بأنه أهون عليها كثيراً الانتقال من الشيوعية نحو الرأسمالية، بدلاً من الانتقال من الرأسمالية القذرة إلى الرأسمالية النظيفة. وقد تضمن تحول الصين من نمط الاقتصاد الاشتراكي إلى النمط الرأسمالي الموجه من قبل الدولة، وهو تحول لم يكن سهلاً بأية حال، إرخاء الدولة قبضتها على شعبها الذي كان بحكم طبيعته يوماً مستثمراً ومقداماً على خوض المخاطر الرأسمالية. ويصل هذا الأمر حد السماح بانفجار نبع مائي حار لا بد أن يترك تأثيراته السالبة على البيئة المحيطة به من جميع الاتجاهات. ولذلك فإن التحول نحو الرأسمالية النظيفة هو الأصعب من دون شك، لكونه يتضمن ضرورة السيطرة على ذلك النبع. ولن يكون هذا التحول ممكناً من دون وجود نظام مدعوم بجهاز قضائي مستقل نوعاً ما، بحيث تستطيع المحاكم ضبط أداء المصانع ومحطات توليد الطاقة المملوكة للدولة. كما يتطلب صحافة أكثر حرية وقدرة على الأنشطة الاستثمارية الملوثة للبيئة من دون قيد أو شرط، حتى وإن كانت هذه الاستثمارات حكومية. وضمن ما يتطلبه هذا التحول شفافية عالية في مجال القوانين واللوائح، كي يتمكن المواطنون الناشطون من معرفة حقوقهم والوعي بها، ومن ثم مواجهة المسؤولين عن تلوث البيئة بصرف النظر عن نفوذهم أو قدرهم السياسي. ولكل هذه الأسباب مجتمعة، فإنه لمن الصعوبة بمكان أن تتجه الصين أكثر نحو الخضرة، من دون أن تصبح برتقالية أكثر مما هي عليه أولاً. ومما لا ريب فيه أن قادة الصين الشيوعيين يخوضون صراعاً وسباقاً مع هذه القضية الآن، بل في وسعي رؤية وسماع صراعهم هذا. وقد سمعته بالفعل أثناء الحوارات الصحفية التي أجريتها مع المسؤولين الحكوميين. وقد أعربوا لي جميعاً عن رغبتهم في استمرار صعود الناتج الإجمالي المحلي لبلادهم، بحكم أهميته لاستقرار الصين ولتبرير مشروعية الحزب الشيوعي الحاكم نفسه، مع العلم أن الأيديولوجية الوحيدة الحاكمة لنشاطه الآن هي إجمالي الناتج المحلي. غير أني سمعت نفس هؤلاء المسؤولين وهم يزدادون في الحديث مؤخراً عن رغبتهم كذلك في أن تكون لبلادهم بيئة أنظف وأفضل، موازية ومصاحبة لارتفاع الناتج الإجمالي المحلي. وبسبب التلوث الكبير الذي حدث للهواء هنا، وما ألحقه التلوث البيئي العام من ضرر بالغ بصحة الصين وأنهارها ومناظرها الطبيعية، وكذلك بالأغطية الجليدية، بل وحتى بإجمالي الناتج المحلي نفسه، فقد أصبحت مشروعية بقاء الحزب الشيوعي الصيني في سدة الحكم، رهينة للمرة الأولى في تاريخ البلاد بقدرته على جعل الهواء أكثر نقاءً. وهذا هو ما يدركه القادة الصينيون. لكن ومع ذلك، فهم يريدون التصدي لهذه المشكلة من دون إحداث أي تغيير في النظام الرئيسي الحاكم للحزب الشيوعي. ويعني هذا رغبتهم في التحول إلى الخضرة على أساس الخلفية الشيوعية الثابتة الحمراء... أي الجمع بين اللونين الأحمر والأخضر، وليس اللون البرتقالي. وهذا هو ما شعرت به منذ لحظة وصولي إلى العاصمة بكين، حيث كثيراً ما أثرت السؤال في وجه من أجلس معه: هل الطقس دافئ في مكتبك أم أن بي حرارة وحدي؟ وسرعان ما اكتشفت أن المكاتب هي الدافئة نوعاً ما ولست أنا. والسبب أن المجلس الحكومي الصيني، أصدر أمراً في شهر يونيو المنصرم، فرض فيه على كافة الهيئات والاتحادات والشركات الحكومية والخاصة، الالتزام بألا تنخفض درجة التكييف الهوائي في مبانيها عن 26 درجة مئوية أو ما يعادل 79 درجة فهرنهايت. يجدر الذكر أن التكييف الهوائي وحده يستهلك ثلث الطلب على الطاقة الكهربائية في موسم الصيف. وكان هذا القرار قد فرض حكومياً من القمة إلى القاعدة، ما أعطاه قوة وجعله يبدو نافذاً. ولكن لك أن تتناول صحيفة "شنغهاي ديلي" لتقرأ وتفاجأ بحقيقة إخفاق نسبة 50 في المئة من مباني المدينة الحكومية في الالتزام بمعدل الـ26 درجة مئوية الحرارية في تكييفها الهوائي. وقد نقلت الصحيفة تلك الإحصاءات عن مسؤولين حكوميين في مجال الطاقة. وعليه تكتشف أن هناك مشكلة ما لا تزال بحاجة إلى المتابعة. وكان المسؤولون الصينيون قد أقروا في عام 2005 تحسين مستوى إنتاج الطاقة بنسبة 20 في المئة، إلى جانب نسبة تحسن في نوعية الهواء تبلغ 10 في المئة بحلول عام 2010. وليس معرفة السبب وراء هذا القرار بالأمر العسير لمن أراد. وكنت قد زرت مقر البنك الدولي بالعاصمة بكين، للقاء أحد خبراء الخضرة. لكن، ومن وراء نافذة مكتبه ذات اللون الرمادي الضارب إلى البني بفعل التلوث الهوائي، لم تتسن لي رؤية أي شيء آخر عدا الهيكل الفولاذي الضخم لناطحة سحاب جديدة يجري تشييدها في مساحة قدرها 6 ملايين قدم مربع كي تنضم إلى 300 من المجمعات والمباني المكتبية التي جرى تشييدها مؤخراً في المنطقة الاستثمارية الصينية الجديدة. أما ذلك الهيكل الفولاذي فسوف يتحول قريباً إلى مقر للإدارة العامة للمنطقة الاستثمارية هذه. وليس أمامي الآن من حل آخر سوى تسلية النفس بالألعاب الذهنية، وقد وجدت نفسي في غمرة الاختناق المروري في قلب العاصمة بكين. فتراني أجول ببصري في البنايات الشاهقة التي أمر بها، وهي لا شك عملاقة و"شافطة" للطاقة بينما تبدو مذهلة في جمالها المعماري البديع. وقلت لنفسي: كم تكون هذه البنايات جاذبة للسياح فيما لو كانت في واشنطن. أما هنا فهي أشبه بالعرائس الضائعة في مهرجان باهر من البنايات المعمارية البهيجة! وهذا ما يردني تارة أخرى إلى القيادات الصينية. فهؤلاء يريدون الجمع بين ثلاثة لا تجتمع: ناتج محلي إجمالي مرتفع، وخضرة زاهية، ثم حكم شيوعي قانٍ أحمر اللون وغير متنازع عليه. ولكن هيهات لهم حتى الآن من الوصول إلى هذا النموذج الهجين! توماس فريدمان كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"