كان اعتداء إسرائيل على الأجواء السورية في الوقت الذي يدعو فيه الرئيس الأميركي إلى مؤتمر للسلام، رسالة للمنطقة وللعالم مفادها أن إسرائيل ترفض خيار السلام وتريد خيار الحرب المستمرة المفتوحة على كل الاحتمالات، بل بات بالوسع أن يفهم المراقبون من سلسلة الأكاذيب والذرائع التبريرية التي قدمتها بعض الصحف الصهيونية عبر مخيلة عاجزة عن الإبداع تكرر ذات الذرائع والأكاذيب التي تم استهلاكها في ذرائع الحرب على العراق، أن ثمة مخططاً يمكن أن يستلهم من تجربة الحرب على العراق نموذجاً يمكن تطبيقه مرة ثانية. هذا ما يمكن فهمه مما يثيره الإعلام الأميركي وينقله الإعلام الإسرائيلي عن أهداف العملية وعن إقحام الملف النووي الكوري والإدعاء بوجود مواد نووية في المنطقة التي تزعم بعض الصحافة الأميركية إنها تعرضت لاقتحام كوماندوز إسرائيلي حصل على مواد نووية من أصل كوري شمالي، وقد استنكر عقلاء العالم كله هذه، ولم يكن دعاة الحروب يعنيهم أن يصدقهم أحد، أو أن يستنكر أكاذيبهم، فقد اعتادوا على الكذب، واعتادوا على الاعتذار والاعتراف بأن ما قالوه كان سخيفاً. والعالم كله يتذكر أن مجلس الأمن انصت باهتمام ذات يوم لتسجيل صوتي لحوار هاتفي غير مفهوم بين ضابطين عراقيين يتحدثان عن إخفاء مواد نووية وقدم التسجيل الوزير "باول" على أنه وثيقة مهمة، وكتم أعضاء المجلس سخريتهم لأنهم غير قادرين على مخالفة الولايات المتحدة. وقد اعتذر "باول" عن سخف ما قدم لمجلس الأمن، ولكن بعد خراب البصرة ودمار العراق كله؟ كذلك اعتذر كثير من المراقبين الدوليين الذين قدموا شهادات كاذبة، وبدا واضحاً أن فريق "هانز بليكس"، وبعده فريق "سكوت ريتر" كانوا يريدون معرفة كل ما لدى العراق من أسلحة وقوى يمكن أن تواجه الحملة الأميركية، وقد قالوا في النهاية إنهم لم يجدوا شيئاً مما يبحثون عنه ولكن الحرب ستقع، والمهم أن توقع الاستلهام من الحرب الصهيونية على العراق يدعو إلى التفكير بحقيقة رؤية إسرائيل وقادة البيت الأبيض لنتائجها، وكيف يقيمون مسارها؟ هل يشعرون حقاً أنها حرب فاشلة لم تؤد أهدافها؟ أغلب الظن أنهم يرون التجربة ناجحة جداً، فقد تحققت الأهداف البعيدة منها، وتم تدمير قوة العراق العسكرية والاقتصادية والاجتماعية، وتمت شرذمة شعب العراق إلى طوائف ومذاهب دينية وأعراق وإثنيات، وتم إشعال الفتن لإدخال العراق في حرب أهلية مذهبية وعرقية، وتم تهجير أربعة ملايين عراقي، وتم قتل العلماء والمبدعين، وإدخال شبكات إرهابية مهمتها القتل والتدمير والتفجير والإبادة لكل القوى الوطنية، وإيجاد الذرائع لاستمرار الاحتلال، وتم شطب العراق لأمد غير قصير من قائمة القوى التي تحسب إسرائيل لها حساباً مستقبلياً في أي حرب تخطط لشنها على العرب فرادى أو مجتمعين. إذن فقد حققت الحرب على العراق كامل أهدافها الإسرائيلية، ولئن كنا نرى أن هذه الحرب أخفقت من وجهة نظر عربية، فمعيار إجابتنا يتعلق بنهوض مقاومة عراقية أعاقت تقدم المشروع الأميركي الصهيوني، وفرضت شروطاً جديدة على مسار الحرب، ولأننا نرى كذلك أن الولايات المتحدة وحلفاءها دفعوا أثماناً باهظة فوق ما كانوا يتوقعون، لكن الحقيقة التي لا يتجاهلها أحد، هي أن العراق دمر، وأن شعب العراق تعرض لأفظع ممارسات وحشية عرفها تاريخ الحروب الهمجية. كان يُمكن أن يقال إن هذه الحرب أخفقت لو كانت أهدافها الحقيقية نشر الديمقراطية وإحلال الأمن والاستقرار، وبناء عراق جديد تنتشر في ربوعه الحرية، كما ادعت قوى العدوان، وباتت دعواها موضع سخرية دولية، وذلك لا ينفي أن الإدارة الأميركية باتت في مأزق، ولكنه في نظري مأزق أخلاقي أولاً، لقد فقدت الولايات المتحدة مكانتها الأخلاقية في العالم كله، وتمكنت إسرائيل من جرها عبر تعمية كاملة على الشعب الأميركي الطيب، إلى مستنقع دماء غاصت فيه، ولم يعد بمقدورها أن تتزعم شعوب العالم التي باتت تكره أميركا بعد أن كانت حلم الحرية وصاحبة الدعوة إلى الحفاظ على حقوق الإنسان، التي كان الإسلام أول من نادى بها. لقد دخلت الولايات المتحدة حروبها في منطقتنا من أجل ضمان تفرد القوة لإسرائيل ولإضعاف العرب وسوقهم إلى الحظيرة الإسرائيلية مهانين، ولأول مرة في تاريخها تقود الولايات المتحدة حرباً ضد الإسلام، لأنها رأت الإسلام مصدراً روحياً قوياً للمقاومة في المنطقة، ولأنها وجدت أن المقاومين يستمدون قدرتهم على التضحية بحياتهم من مفهوم الشهادة الإسلامي، فسمت ذلك إرهاباً وأعلنت حرباً دولية ضده، وكان بوسعها أن تزيل الأسباب التي تدعو المستضعفين إلى التضحية بحياتهم، لو أنها نفذت قرارات الشرعية الدولية، لكن رسائل السلام التي قدمها العرب بوضوح مطلق وأهمها ما تضمنته المبادرة العربية، قوبل بالرفض، وبدا واضحاً أن إسرائيل ما تزال متمسكة بخيارات الحرب، والسؤال المهم، هل تستطيع إسرائيل أن تحقق أهدافها بالحرب؟ لعلها تستطيع عبر ما تلقى من دعم عسكري غير محدود أن تحقق دماراً حيث تضرب، ولكنها لن تكون بمأمن فسوف يلحق بها من الدمار ما لا تطيق، ولاسيما أن عقيدة الحرب في المنطقة قد تغيرت، وباتت المقاومة الشعبية هي التي تقود الصراع، وهذه المقاومة قادرة على خوض حروب طويلة المدى، لكن الخطر أن ينفلت الأمن والاستقرار، وأن يتمكن دعاة الحروب من نشر مزيد من الفوضى، عندها ستتحول المنطقة كلها إلى ساحة إرهاب دولي ستكون إسرائيل أول من يدفع ثمنه الفادح. واليوم تزداد مساعي إسرائيل لإدخال العالم في مآزق جديدة، ولجر الولايات المتحدة لحرب مع إيران أو مع سواها من دول الجوار. والمشكلة الكبرى أن الذين يقررون مستقبل العالم اليوم من السياسيين الأميركيين أو الإسرائيليين لا يمتلكون رؤية إنسانية، إنهم مجموعة من الأنانيين الذين يؤمنون بحق القوة وحدها في الحياة، وبالتميز العرقي والديني (من شعب الله المختار) ولا يرون أحداً في العالم جديراً بأن يشاركهم العيش على هذا الكوكب، وهذا ما يفسر قدرتهم على قصف المدن، وقتل ملايين الناس دون أن تتحرك ضمائرهم، لأنهم يعتقدون أن هؤلاء الذين يقتلون وتدمر مدنهم، ليسوا جديرين بالحياة. إن شعبنا العربي في كل أقطارنا العربية، يدرك خطر ما تخطط له إسرائيل، وهو شعب قادر على التضحيات، ولكنه ما يزال يؤكد حرصه على السلام، وتمسكه بالمبادرة العربية، ولكنه ينتظر موقفاً حازماً من المجتمع الدولي لإيقاف الحماقات التي يريد منها دعاة الحروب الهرب من مواجهة استحقاقات السلام، ولا يغيب عن بال أحد أن التهديد اليومي بالحرب على إيران أو سوريا، وتهديد الشعب الفلسطيني، ونشر مزيد من الإرهاب في لبنان عبر جرائم ترتكبها إسرائيل وأعوانها وتتهم بها سوريا، كل ذلك سيحمل المجتمع الدولي مسؤوليات جساماً فوق ما تحمل من النتائج الكارثية للحرب على العراق.